حين يثمل الهوى:
القصيدة تولد من مكان مضىء،
لكنها نادراً ما تعود إلى ذلك المكان دون أثر.
قراءة في قصيدة “الهوى ثمل” لأنور الخطيب
بقلم الكاتبة البريطانية الفلسطينية سحر الهنيدي بالمر

الهوى ثمل
قد أُتخم العشق شوقاً،
فالهوى ثملُ
وما بقلبي نبيذ،
كله بللُ
وقيل أني شربتُ، ما يفوق دمي
فنزّ منّي الندى،
ما عاد يُحتملُ
أكلما شقّ سهمٌ خافقات جوى
تناثر الشعر جمرا،
فيه أكتحلُ
ولَمْلَمَتْهُ حسانٌ عن جوارحه
فجرّحت كبداً،
من كيدها المقلُ
قل لعينين إني وهجُ قافيتي
أسير في هديِها،
والهدى عِللُ
لا تمنحاني الرؤى،
بل رؤيةً صدقت
يوم العناق، ما نطقت به القبلُ
كأن هذا الكون قُدَّ من ولهٍ
فولول تائهٌ،
وهام من رحلوا
إني على هودج الوعي،
لا رفاقَ معي
بل ظلمةُ المعنى،
والوحي يُقتتلُ
وجارياتٍ، سُبينَ من ظمأٍ
حُررن في ليلةٍ ،
ما بها زحلُ
فأنجبت حلوةٌ طفلا
وكان لها مجدُ السماء
وتاجٌ كله سُبُلُ
وتقاتل الخلق، مختلقين أدعيةً
هذا لنا، من صُلبنا،
فكان أن صُلبوا
وضيعوا ضيعتي
قد كنت أحسبها، مرجانةَ القلب
لكن قلبها سحلوا
أنور الخطيب
حين يثمل الهوى
هناك قصائد تشرح نفسها، وهناك قصائد تدعوك للدخول إليها. قصيدة أنور الخطيب «الهوى ثمل» تنتمى بوضوح إلى النوع الثانى. فالعنوان وحده يكشف المناخ الشعورى: الهوى مخمور. ليس متوازناً، ولا عقلانياً، ولا مستقراً. إنّه إحساس تجاوز حدوده وأصبح شيئاً آخر تماماً.
فى قراءتى لهذه القصيدة، وجدت نفسى أتتبع القوس الذى يتشكّل عندما يفيض الشعور على الفكر، وحين يستجيب الجسد قبل أن يفهم العقل ما يجرى. الثمالة فى القصيدة ليست ثمالة خمر، بل ثمالة شدّة. إنّها لحظة تستولى على الكيان بأكمله.
ما شدّ انتباهى هو أنّ الشاعر لا يصف الحب أو الشوق بلغة مجردة، بل يترك الإحساس يتصرّف كما تتصرّف الثمالة: متقلّب، غير مصفّى، وفائض. تتناثر اللغة، وترتجف الصورة. وهذا بالضبط ما يحدث للشعور القوى عندما نحاول فهمه. إنّه يقاوم النظام. يتسرّب إلى التعبير.
ومع استمرار القراءة، أدركت أنّ الخطيب لا يصف الحب فقط، بل يصف الحالة الإبداعية التى تتبع الشرارة الشعورية. فعندما يصبح الإحساس أكبر من قدرة الجسد على احتوائه، يبحث عن شكل آخر. وفى هذه الحالة، يصبح شعراً. ولهذا تشعر القصيدة وكأنّها تتفجّر ولا تُكتب تفجيراً متدرجاً. الشعور يتحوّل إلى لغة كما يتحوّل السائل إلى بخار بالحرارة. يرتفع مع الضغط.
بالنسبة لى، القصيدة ليست حكاية. إنّها عملية نعرفها جميعاً: لحظة تبدأ فى الجسد، تتكثّف فى القلب، ثم تُجبر نفسها على الخروج كلمات. كل من كتب أو أبدع أو تكلم من مكان شعورى شديد سيعرف هذا المسار فوراً.
العنوان «*الهوى ثمل*» يحمل كل ذلك فى جملة واحدة. الهوى غير ثابت. غير متّزن. مخمور بذاته. وعندما يصل الهوى إلى هذه الحالة، يولد منه شىء آخر دائماً. أحياناً وضوح. أحياناً اضطراب. وأحياناً، كما هنا، نصّ يلتقط حِدّة التجربة دون أن يحاول تهذيبها.
لهذا أعود إلى شعراء مثل أنور الخطيب. فهم لا يقدّمون خلاصات جاهزة، بل يقدّمون مرايا. يذكّروننا بأن للشعور حياة مستقلة، وأنّ عملية الفهم تبدأ عندما نسمح للإحساس أن يتكلم، لا عندما نحاول إسكاته.
وإذا كان لهذه القصيدة دعوة، فهى أن نلتفت إلى اللحظات التى «يثمل فيها الهوى داخلنا»؛ اللحظات التى تدفعنا نحو التعبير، والصدق، والتحرر الإبداعى. هذه ليست هشاشة. إنّها عتبات. وعبورها يكشف غالباً ما لا تكشفه المشاعر الهادئة.
سحر الهنيدي بالمر
*وهذه تأملات بقصيدة الخطيب:*
*الهوى ثمل*
*Desire Is Inebriated**
هناك لحظة يرتفع فيها الإحساس داخلى بقوّة تجعلنى لا أراه شعوراً فحسب.
يتخمّر.
يغلظ.
يفيض كالنبيذ.
لا أختاره.
يدخل كحرارة، كرطوبة، كنبض يغمر صدرى.
فى تلك اللحظة، يعجز جسدى عن احتوائه.
ويعجز عقلى عن ضبطه.
وتشتعل الكلمات.
تتناثر شرارات الشعر قبل أن أفهم ما أحاول قوله.
وكلما اخترق ذلك الشعور داخلى، هبط جمر آخر على الصفحة، يصنع بيتاً لم أخطط له.
هكذا تبدأ القصيدة.
*ثم يحدث التحوّل.*
تضعف الثمالة، ويبدأ شكل من الوضوح فى الظهور، لا كفكرة بل كحضور.
أبدأ أفهم ما كان الإحساس يحاول قوله.
*هذه المرحلة دائماً فوضوية.
المعنى لا يأتى برفق. تأتى عبر شدّ، وتقلّص، وانفراج.
يتصرف كولادة.*
وما “أولده” ليس طفلاً، بل جوهر التجربة التى أرادت أن تتكلم من خلالي
يخرج هشّاً، مضيئاً، مليئاً بالإمكان.
ولحظة من الزمن أصدّق أنّه يحمل شيئاً مقدساً.
تاج بصيرة.
وهجاً يمكن الوثوق به.
لكن هذا الوهج لا يأتى وحده.
يأتى محاطاً بالصراع:
الصراع بين ما شعرتُ به، وما رغبتُه، وما خفتُه، وما سيفسره العالم بطريقته.
ومع تشكّل القصيدة، تتدفق قوى أخرى:
تأويلات.
سوء فهم.
ضجيج.
ناس يتعاركون مع المعنى، يتظاهرون أنّهم فهموا، يخترعون تفسيرات ليست لى.
كل شاعر يعرف هذه اللحظة.
ثم تأتى الحقيقة الأخيرة.
ما كان بينى وبين الشعور كان حقيقياً.
خالياً من الشوائب.
ملكنا وحدنا.
لكن حين خرج إلى العالم،
حين غادر المساحة الحميمة بين صدرى والصفحة،
فعل العالم ما يفعله دائماً:
صلبه.
شوّهه.
جرّ قلبه على الأرض.
ليس لأنّ القصيدة كانت ناقصة،
بل لأنّ النقاء نادراً ما ينجو من الاحتكاك بالضجيج.
ما خلقته جاء من أعمق مكان فى داخلى،
لكن العالم تعامل معه دون معرفة ذلك.
وهذه هى مأساة الإبداع:
القصيدة تولد من مكان مضىء،
لكنها نادراً ما تعود إلى ذلك المكان دون أثر.
