رواية الكبش.. الفصل الأول .. المهرج .. تأليف أنور الخطيب

رواية الكبش.. الفصل الأول .. المهرج .. تأليف أنور الخطيب

رواية الكبش

الفصل الأول

%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%84%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%87%d8%a7%d8%a6%d9%8a-%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b4

المهرّج

(1)

(أيها المتفرجون، امنحوني مسامعكم وصمتكم قليلا لأمنحكم مزامير رحلتي، أرجوكم.. لا أحتاج اكثر من دقائق قليلة كتلك التي يُذبح فيها طفل أو تُغتصبُ فيها امرأة، وأعني، دقائق أقل من عدد أصابع قدم مقطوعة. أريد أن أثبت لكم أنني مهرج، أي أضحككم وأنتم نائمون؛ هذا شرط مدينتكم ليمنحني وليّها إقامة مؤقته في قلوبكم المتقلبة. اسمعوا هذه الجملة المبتكرة: لقد ضاقت الدنيا بي حتى صارت أصغر من فرج نملة؛ أنا لا أرغب في استخدام ثقب الإبرة لأنها ستحيلكم إلى لذة التأويل، أما فرج النملة فيصدمكم أو يثير خيالكم أو يقرفكم.. ألم يصدمكم؟!

اسمعوني أرجوكم.. أنتم مصرون على الثرثرات الجانبية كمؤتمرات السلاحف، وترفضون مساعدتي كما يفعل الأطفال بضرير عابر، سأبدأ حديثي رغم أنني لا أسمع صوتي، سأصرخ حتى تتقطع حبالي الصوتية  أو يتشقق سقف هذا المكان الذين تستنمون فيه، لقد جئتكم ماشياً على سطح الماااااء، ولا أدري، أكان البحر يحملني أم كنت أحمل البحر..!

شكراً لانتباهكم، لكنني على عداء مع هذا الصمت الذي خلقتموه، أمقته من أعماق صراخي، لا بأس من ثرثرة هنا ولعنات هناك، لا تصمتوا هكذا، لا تحملقوا بي كأن الطير على رؤوسكم، أريدكم أن توقنوا بأنني لست نبيا، ولا صاحب معجزات، فقد حاولت اجتياز حدودكم البرية فوجدت برّكم مزروعاً بالألغام والغلمان ونباح القذائف والمناسف وشخير المذبوحين والقوادين وأنين النساء وعواء الرصاص، والتآمر عليّ وعلى القادمين المحتملين، وعليكم، فقررت مضطراً ركوب البحر، ونجحت، ربما لم أنجح كما أريد، لكن ركوبي لم يكن قراري الطوعي، ببساطة لم يكن اختياري، ربما دفعتني يد قادمة من الغيب الرحيم أو ركلتني قدمٌ قفزت من الجحيم الرجيم، لكنها لم تُسكِنني في بطن حوت.

كلا.. لا تقفوا هكذا خاشعين، لا تنحنوا، أنتم في أمس الحاجة إلى فقرات ظهوركم، لست مباركاً، ولا يقطر من أناملي زيت القداسة، ولست معصوماً من الرذيلة والخطايا، ولا أشفي الأبرص ولن أعيد البصر للضرير، لست رسولا ولا نبياً، لا تنظروا نحوي بعيون ذابلة هائمة بفحوى السماوات وأسرارها المربكة، لست يسوعا ولا نوحاً ولا موسى ولا زكريا، ربما أكون الصليب أو السفينة أو البحر أو الرجل العجوز أو القطة التي دخلت الجنة!

لا تصمتوا كثيراً فصمتكم قد يُفشل مهمتي، أرجوكم، أريدكم أن تضحكوا على كل جملة أقولها، وأن تصمتوا بعدها كي أطلق الجملة الثانية، مارسوا الكذب عليّ وعلى أنفسكم كما تشاؤون، وكما تفعلون دائما، سيسامحكم الصادق، أنا لا أعلم كيف تمكنت من امتطاء الماء، وأشك أنني كنت أسبح كالدلافين أو التماسيح. أنا في الأصل لا أجيد السباحة!

لا تتوقفوا كثيراً عند كلمة “امتطاء”، لم أكن في قارب ولم أستخدم زلاجة مائية، ولم تحملْني حوريةٌ على ظهرها، ولم يبتلعْني حوت، كنت على الشاطئ الآخر أمارس رياضة السباحة والتأمل في موج الله وزبده، أختبر حركة الوجود المُنشأ من شيء ما، وأجهد روحي للاستماع إلى مكونات الصمت السابق للصوت وأكتب الشعر، وفجأة.. ظهر فوج رجال عراة يكسو الشعر الكثيف أجسادهم، كانوا يحملون السيوف وعلى رأس كل سيف رأس امرأة جميلة يقطر حيوانات منوية.. اضحكوا، أليست هذه جملة داعرة، أليس هذا مضحكاً! ربما لم تكن رؤوس نساء، وأشك أن السائل كان عصارة عملية جنسية بشعة، وربما لم يحملوا السيوف، ربما ربطت العري بالشعر الكثيف بالسيوف، وربما كانوا يرقصون، فليس كل ما كان يتحرك نحوي هو ضدّي، لكنني وصلت إلى مشارف اليقين حين رأيتهم يقتربون رافعين سيوفهم صارخين مبتهجين منتشين: (قربااااان .. قربااااان.. كبش، كبش).

لم أكن أعرف معنى القربان، فكيف أعرف معنى الكبش، لكنني شعرت أنهم يبحثون عن شيء يذبحونه، فقد بدؤوا يسنون سيوفهم ويلوحون بها ويؤدون رقصات غريبة، كانوا يرفعون سيوفهم نحو الأعلى، كأن السماء أرسلتني إليهم ليفرحوا.

هل أنا قربان أم كبش؟ جازفت بتوجيه السؤال لي بصوت مسموع، وكأنني أستفسر عن ماهيّتي، وبماذا ستعود عليهم التضحية بي على شاطىء صافٍ يصلّي لله؟ وحين أدركت أن لا خير من وراء موتي أو ذبحي ولا فائدة من صلبي والتمثيل بي! هربت مرعوباً نحو الماء، قفزت فوق الموجة الأولى، ثم الثانية ثم الثالثة ثم بدأت بالسير كأنني أنقل خطواتي الواسعة على طريق معبّد. لم تكن معجزة، ربما كانت.. وربما كان الماء متجمداً، ربما حملتني كبسولة الزمن، ربما حملني دولفين على ظهره، ربما خطفتني حورية البحر، ربما مت وروحي الآن تحدثكم، ربما كنت نائما على الرصيف المحاذي لمسرحكم وبالغت في الرؤيا، ربما كنت في إغماءة، لا أدري، لكنني حين مشيت على الماء وفردت ذراعيّ كشراعين، ونظرت خلفي، وجدت الرجال راكعين وقد ألقوا سيوفهم على الرمل، فتحررت رؤوس النساء وسحبتها الأمواج، ونبتت للرؤوس أجساد فامتلأ البحر بالنساء الجميلات العاريات.. هل هذا يعجبكم..؟! أنا لا يعجبني، ربما لم تتحرر الرؤوس، ورغبتي في تحررها هي التي خلقت تلك الصورة، وبالتالي، يمكنني القياس على امتلاء البحر بالجميلات أيضا.. عليّ اللعنة، كم أنا فاشل في رؤية الصور.

لقد تأخر المخرج، كان عليه أن يعرض المشهد الذي وجدته في هاتفي المحمول، يبدو أنني صورته دون وعي منّي، أو صوّره نورس وأرسله لي عبر (الواتس أب)، وربما استقبله من أحد الأعضاء في مجموعة إلكترونية ساذجة مغامرة..  

كلا، لا تصرخوا، المخرج قادم، أنا لا أكذب، أرجوكم واصلوا سكينتكم، سترون رؤوس النساء وأجسادهن في فيلم بنوعية عالية، وسترسلونها عبر “الانستغرام والسناب شات”،  أليس هذا ممتعاً! ولكن، هل ستصدقون قصتي لو شاهدتم ما سردت الآن أمامكم؟

شرطة بلادكم رفضت تصديقي،  قال لي المحقق السمين ساخراً: (هذا مونتاج دقيق ومتقن، ثم، كيف عبرت البحر مشياً على الأقدام، هل أنت سمكة أو موسى أو المسيح أو بوذا؟ أنت لست كل هؤلاء، أنت المهرج ومكانك مسرح المدينة، هنالك مرتادون دائمون يستمعون إلى قصص الغرباء أمثالك، فإن صدقوها منحناك إقامة بيننا مدى الحياة، وإن كذبوها سنقطع أذنيك، ولهذا من الأفضل أن تسرد قصتك بأسلوب كوميدي لتجعلهم يضحكون، ونحن هنا نراقب كل شيء؛ نراقب المسرح والسينما والتلفزيون ودار الأوبرا والمسرح الروماني، والقلعة البيزنطية، وسور عكا وأبو الهول وحمام المسخوطين والحدائق المعلقة والأهرامات، وقلعة بعلبك ومسرح تدمر وسور عكا، وحمام المسخوطين وقبر المعتمد ابن عباد والحمامات، كل شيء، احرص على إضحاك الجمهور، كما نفعل نحن، وإلا كانت قصتك حقيقية..).

يبدو أن قصتي لم تكن مضحكة أو مسلية، أعلم أنكم في انتظار المخرج، ولكن ماذا سأفعل لو لم يحضر! فقد رأيته  بأم عيني قادماً خلفي ويمتطي حورية البحر الساحرة، يبدو أنها خطفته واغتصبته، ربما كان بحاراً قادماً من جزر مسحورة بعيدة، ورأيته يراقص بقرة تقضم الأناناس وتزيّن “درّتها” بحبة كرز..

قَهقِهوا من الضحك، لماذا تواصلون الحملقة في وجهي وقد انقطعت أنفاسكم وخرست ألسنتكم؟ حسناً، ربما لم أر المخرج ولا الحورية، والآن، وحتى أجعلكم تضحكون، سأمشي على ذراعيّ وسأرقص كالبطة العرجاء وأتقافز كقرد صغير، هل تحبون القرود؟ قال لي أحد العابسين أنكم تحبون القرود؟ أنا قرد قادم من الغابات الماطرة دما، لكنني طبيب بيطري، أقوم بتوليد الحيوانات، وأعلم جنس ما تحمله أرحامها..

أرجوكم لا تخشعوا هكذا..هذا علم وليس كرامات!!

ألا تطالبونني بترك المسرح؟ انتهى زمني، وفشلت في ارتداء قناع المهرج، وأنتم ستساعدون الشرطة على قطع أذني، هل يرضيكم ألا أجد مكاناً أثبت عليه القلم الذي أكتب فيه وصفة طبية لحمار، أو أثبت عليه نظارتي الطبية حين أتقدم في العمر ككركدن عجوز؟ لا بأس، أنا مغادر المسرح الآن، وأرجو ألا تتبعوني، أنتم تعتقدون أنني هبة السماء، ومحاط بالملائكة، أو شيطان ماكر، ولكنني لست كذلك، أنا مجرد باحث عن وسادة نظيفة من الوساوس، بعيدة عن نعيق سيارات الإسعاف وأصوات الرصاص.  

انتظروا، ها هو المخرج قد حضر، إنه يشق صفوفكم متجهاً نحو المسرح، لا تحنوا رقابكم، هذا مُخرج حقيقي وليس أمير المؤمنين، حين يصعد للمسرح سيروي لكم النكات، شأنه شأن قادة الحروب، وستضحكون حتى الصباح، وسيعرض أمامكم فيلم رؤوس النساء والأجساد الجذابة التي نبتت لهن، انهضوا أرجوكم، استقيموا يرحمكم الله، ها هو المخرج يقف إلى جانبي، أريد الانتهاء من الامتحان، لقد تحولت النساء في الفيلم إلى عصافير تضحك، ونبت للعصافير أعضاء ذكورية مدهشة، وانطلقت في الهواء راقصة مغردة، ستشاهدون بأنفسكم هذه النوادر..

المخرج يقول لي إن محقق الشرطة تحفّظ على الفيلم، وقال إنه ملفّق، ولم يصدق تحوّل النساء إلى عصافير بأعضاء ذكورية.. سأغادر، ولكن امنحوني ابتسامة فقط كي أحافظ على أذني، ابتسموا أكثر، فالمخرج يطالبكم بألا تصدقوني، ويقول إن هذا الطبيب البيطري، يقصدني بالطبع، سرد عليكم ما رآه في حلمه، ويبحث عمن يفسّر أحلامه، هل بينكم مفسر أحلام..؟

حسناً، ربما لم يكن حلماً، لكنني أرى أحد الحاضرين يعلن صارخاً أنه مفسر أحلام، مع أن مفسري الأحلام لا يصرخون، والأحلام لا تفسير لها سوى أنها أحلام.. لعنة الماضي وارتباك المستقبل.. ثم أن المفسرين يتحدثون بهدوء وبصوت منخفض، لأنهم كذابون.. إلى اللقاء..

(2)

كنت أجلس على حافة سور منخفض يحيط بالمسرح لأستريح من ضبابية الجمهور الذي شعرت فيما بعد بغيابه، فالثرثرة في مسرح العبث تعني اللاوجود، لم تثبت صورة أحدهم في ذاكرتي، رغم صغر حجم الزمن الذي كان يفصلني عنهم.

نسيتهم سريعاً، وانشغلت بتيهٍ تجسّد في حركة المارين والقطط السمينة والكلاب الضالة والمخبرين والعاهرات الشقراوات وتجار الأعضاء البشرية وتلاميذ المدارس الذاهبين إلى المعسكرات وموزعي بطاقات دكاكين المساج. كنت أشعر بالحزن فقط، لم أشعر بالهزيمة أو الانكسار أو الحرج.

عطّل انشغالي صوت رجل لامس قفاي بنغمته الخشنة: (ما هذه القصة التي سردتها فوق خشبة المسرح وكان الجمهور بين غاف ومأخوذ وراكع ومائع؟ ولماذا صعدت قبل بدء المسرحية؟ هل تربطك صلة بالمخرج؟ هل تواطأت معه في الحوار الأخير الذي دار بينكما؟ هل أنت ممثل؟ هل أنت مقاتل هارب من جبهات الجهاد؟ هل أنت ولي صالح؟ أم أنك رجل خانتك أمك مع أبيك؟

لم أستدر ناحية الصوت، فقد أحسسته يهذي دون تركيز. وحتى أعيده إلى صوابه أو أجبره على تصويب أسئلته، فلا يشعر أنه يقف خلف مشرد أو مدمن مخدرات أو ممثل فاشل، قلت وأنا أتعمّد مراقبة نملة كبيرة كانت تستلقي على ظهرها وتضع ساقا على ساق: (قلتُ ما رأيت أيها الرجل، والرؤية ثلاثة أرباع الحقيقة، والحقيقة كامنة في المياه، مياه الظهور والأرحام، وأنا أتيت من المياه. صعدت قبل بدء المسرحية كي أذكر الناس بالبعد الآخر للمهزلة، البعد الذي تأسست الحقيقة المزعومة وفقه. المشي على الماء حلم أقرب إلى الواقع، ولهذا انتبه الحاضرون بعد موتهم. أما المخرج فقد نفى الحقيقة بذريعة الحلم، ولا يدري أننا نحلم بما هو كائن وما سيكون، وبالتجليات المدفونة في رؤوسنا الصغيرة، المعذبة منذ انتقالنا من مرحلة القتل المتوحش إلى القتل الممنتج ، ألا ترى معي أن القتل هو القتل؟).

قال بعد صمت: كأنك بهذا القول إنسان آخر يختلف عن الذي اعتلى خشبة المسرح قبل قليل، أنا لا أفهمك، ولا أريد الخوض في هذه الفلسفة الصعبة، أعني أنني لا أريد أن أفهمك. كنت أفكر طيلة الوقت الذي كنتَ فيه على المسرح بحصاني المريض، وقلت في داخلي، هل يستطيع هذا المهرج الفاشل مداواة أحصنتي، لقد فشل كل البيطريين والأطباء البشريون في إعادة الصهيل إليهم، فما هي مهنتك؟

  • قال المخرج إنني طبيب بيطري، ومهما يكن من أمري وأمرك، أنا أعتقد أن إعادة الصهيل إلى حصانك يختلف عن إعادة العافية إليه، قد يكون في صحة جسمانية قوية، أما الصهيل فهو موسيقى لمداه، كهذا المدى الملوث، فكيف مداه؟
  • أنت تعقّد الأمور، ويبدو أنك كثير الانتقاد، ما يعني أنك لست من هذه البلاد، لكنني أجد نسبة من الصحة في قولك، فهل تأتي معي لرؤية الحصان؟
  • هل تستطيع القفز عن السور المنخفض حتى أراك؟ سأرافقك إن فعلت.

لم يتردد الرجل، وجدته يقف خلال لحظات أمامي بهامة الفارس المندهش من هزيمته،  يحملق بي راسماً عقدة بين حاجبية كأنني من هزمه. قرأت بسرعة فائقة شكل عقدته، لم تكن علامة غضب أو كراهية، ولم تعكس حجم قلقه على حصانه، فقد تداخلت بملامح تخفي مؤامرة لم أفهمها بوضوح، فعقدة الوجه أمارة بالريبة، رغم أن العقدة التي تتوسط حاجبيّ كانت أكبر من عقدته.

كان في الخمسين من عمره، ربما أكبر قليلا أو أصغر، قوي البنية، قفزته عن السور التي لم أراقبها أنبأتني أنه رجل رياضي، بل عسكري، ووقفته كشفت لي غروره، وتوتره وشى بقلبه متعدد الانتماءات، وحراسته عن بعد من قِبل شابين أظهرت أهميته.

كان يقود سيارته الفخمة بهدوء وزير مهدّد بالقتل، يلتفت كثيرا إلى جانبي الطريق، يفتش في وجوه السائقين والمارة عن وجه غائب. شعرت في لحظة ما أنه تناسى وجودي أو نسيه، ربما كان صادقاً في قلقه بشأن خيوله، رغم أنني استبعدت ذلك، فقد انتباني إحساس أنه يعاني همّاً أكبر وأهم من خيوله وفقدانها للصهيل، كان الاستنفار باديا على تحفّزه الداخلي، رغم حرصه على الظهور بمظهر الواثق. 

وصلنا إلى مزرعته الشاسعة الكائنة على طرف المدينة، أخذ نفساً عميقاً، ربما لوصوله بالسلامة. تقدمني مباشرة نحو الاسطبل مطمئناً أنني سأتبعه. أدار له الحصان مؤخرته وبدأ يلوّح بذيله حين اقترب منه، شكى لي بحزن طفل مقهور على وشك البكاء: (هل رأيت، هذا هو الفاقد لصهيله، يكاد يصيبني بالخرس..).

كان الاسطبل مزدحما بالخيول المتمنعة عن الصهيل، كأنها دخلت في إضراب طويل لتحقيق مطالبها المجهولة حتى تلك اللحظة. تفحصت عن بعد كل خيل على حدة، فعلت ذلك بإحساس الطبيب البيطري، كانوا جميعاً بصحة جيدة.

أدرك الرجل ما يدور في خلدي وقال: (أعلم أنهم أصحاء، لكن إن صهل هذا الحصان اللئيم صهلوا، وإن التزم الصمت قلّدوه، هل تستطيع شفاءه؟).

شرحت له متعمّداً إظهار علمي وتغيير الصورة التي لصق بعضها في وعيه في المسرح، وقلت مصوّباً كلامي إلى عينيه مباشرة: (إن الحيوانات كالبشر يصابون بانتكاسات نفسية، ومنها الإحباط والاكتئاب، وربما لديها مطالب لكن من الصعب معرفتها، وعلم نفس الحيوان غامض جداً ومعقّد، فهل أصيب حصانك بهزيمة أو هزائم؟ أم أنه عاتب عليك جراء موقف لم يعجبه؟ أم أنه عشق أنثى فرس في مزرعة جارك ورفضت السماح له بنكاحها بذريعة أنها ليست على دينه أو دينك؟

كاد الفارس أن يفقد أعصابه بسبب احتمالاتي التي كانت غريبة عليه، أو ربما لم ترق له، لكنه تدارك قوله الباطني عن هذري وهلوساتي وقال بضيق: (لا هذا ولا ذاك..)

ثم قذف ما كظمه: (ما هذه الترهات يا دكتور؟ ومن أين تأتي بكل هذه التحليلات والاحتمالات؟ هل للحصان دين يا رجل؟ بل هل له مطالب؟)

  • دين الفرس على دين فارسه وربما أكثر، هل أُصبت أنت بهزيمة أو هزائم؟

(أنا..؟!)، قالها بارتباك من يخضع لتحقيق، فأدركت أن الفارس هو من فقد صهيله، والحصان الذي كان يقف إلى جانبه هو الذي كان يقود القطيع، فتسللت رائحة الهزيمة التي كان يصدرها إلى بقية الأحصنة، فتهدلت آذانهم وطووا ذيولهم داخل أرجلهم الخلفية.

التفتَ نحوي وموجات القهر تتدافع وتتقلب في روحه، شعرت صدره يضيق كأنه مقبل على إغماءة من نوع خاص، فطلب مني بصوت خافت مغادرة الاسطبل، لنرتشف فنجان قهوة في الداخل.

كان بيتا صغيراً ملحقاً بالمزرعة، تنتشر على جدرانه صور خيول أثناء التدريب وفي السباقات، وصور أخرى للفارس وهو يتسلم جوائز ودروعاً وشهادات. أعلمني أنه يقضي معظم وقته في ذاك البيت، وسارع بإطلاق جملة اعتراضية – لم يكن بيت العائلة.

لم أصدقه كثيراً. شرح لي المناسبات التي التقطت فيها الصور. كونت فكرة وافية ملخصها أنه كان فارساً لا يُشق له غبار، وفاز في معظم سباقات الخيل، وفشل في آخر سباقين مهمّين لتعرّضه لمؤامرة. لم يفسر لي نوعها، ربما خانته امرأة، أو طلقته زوجته، أو راوده أحد عن نفسه وأبى! وربما لم تكن تلك الصور صوره وإنما أجرى عليها تعديلا بواسطة برنامج حاسوب.

شرحت له وجهة نظري في الأمر بعد تلمّسي حجم الكآبة التي كانت تطوّق رقاب الخيول، وقلت: (يقول المثل الشعبي “الفرس من خيّالها”، ولهذا القول جذور علمية، لقد انعكست روحك التي استسلمت للهزيمة على خيولك، وتأثر بها حصانك القائد، فأنت قد تعلم أن الرائحة هي بوصلة الخيول، وأداة علاقاتهم بالفرس الأنثى والفرسان، وقد لا تعلم أن جسدك يصدر رائحة الكآبة والهزيمة، فتلتقطها الخيول مباشرة، كما تلتقط رائحة الخصوبة من الفرس الأنثى، والحل بيدك، ولست في حاجة إلى طبيب بيطري، وإنما إلى استعادة روح الفارس، فلا تقترب من خيولك إلا حين تستعيد إصرارك، شرط ألا تبتعد كثيرا، ولا تخن زوجتك مع امرأة أخرى، فالخيول الأصيلة تكتشف الخيانات، وتشم روائح الخديعة.

لم يعجبه تحليلي ووصفي لروحه المهزومة، لكنه اقتنع بصدقي. الماكرون يعلمون صدق الآخرين بسهولة، قد تظهر على شكل اعتزاز في الصوت، أو رجفة في أصابع اليد، أو التلقائية في الكلام، أو عدم المداهنة.

تأملني مليّاً، طرح أسئلة كثيرة عن حالتي وطريقة تحصيلي لقوت يومي وبيتي. وبعد استماعه لإجابة مختصرة، أخرج سلسلة مفاتيح من جيبه: (هذه مفاتيح هذا البيت والاسطبل، ابق هنا المدة التي تشاء، واعتبر البيت بيتك، فهو مجهز بكل ما تطلبه ويوفر لك الراحة، وهؤلاء الخيول خيولك، لكن لا تعتبرهم مرضاك، ولا تتعامل معهم كخيول مجنونة، لا أريد أن أوصيك بما تعلم، وسأعود بعد وقت قصير لأطمئن عليك، وعلى الخيول والبيت أيضا).

لم أفهم قصده في مسألة الاطمئنان على البيت والخيول، ومسحت البيت بنظرة شاملة وعدت أنظر إليه بابتسامة صفراء، فقال: (هذا البيت مليء بالقطع الثمينة التي قد لا تثير اهتمامك لاختلاف تخصّصك، اعذرني، ربما تعيش في عالم الحيوانات فقط، مع أن حدسي يقول غير ذلك، فأنت رجل فيه لله الكثير، وكدت أصدق سيْرَك على الماء، وركوع المتوحشين حاملي السيوف على الشاطئ).

النوم كان همي الأكبر، نسيت خيول الفارس ونياشينه ومقتنيات البيت الثمينة، وتناولت وجبة دسمة وأسلمت جسدي لأريكة واسعة ومريحة، استيقظت بعدها عند المساء وتوجهت مباشرة إلى الاسطبل، اصطحبت معي مذياعاً قديما، ثبته على موجه تبث أغان راقصة ودخلت. كانت مساحة الاسطبل كبيرة إلى درجة تسمح بالرقص الحر. انتبهت الخيول للموسيقى الحماسية، وبدأت ترقبني وأنا أقوم بحركات تشبه رقص الخيول، فأرفع ساقي وأدفعها نحو الأمام وإلى الخلف ثم أعيد الحركة بالساق الأخرى، مع التلويح الإيقاعي بذراعي. بدأت الخيول فرحة، حركتها دلت على تحرك دم الفروسية في عروقها، فبدأت ترقص ببطء، وتهز رؤوسها ذات اليمين وذات اليسار.

في الصباح، كررت موسيقى المساء، بعد أن قدمت للخيول وجبة إفطار شهية مصحوبة بموسيقى عسكرية، وعرضت أمامها الصور المعلقة داخل البيت صورة بعد أخرى، وأدخلت إلى قلوب الأحصنة السعادة بعرض صور لإناث جميلات رشيقات، فانتصبت آذنها وأخرجت ذيولها من بين سيقانها، وصهلت بوجع، لكن الحصان القائد حافظ على اتزانه رغم قيامه بحركات تشبه الرقص والطرب لثوان معدودات.  

عاد الفارس بعد ثلاثة أيام، صرت خلالها مألوفاً للخيول، طلبت منه عدم الدخول إلى الاسطبل ومراقبة الوضع من بعيد، ولا يدخل إلا إذا رأى الخيول طربة، وأوصيته أن يفرغ روحه من الكآبة والحزن، وأن يدخل متمايلاً راقصاً. وعدني بتنفيذ كل تعليماتي.

دخلت الاسطبل كما كنت أفعل خلال اليومين الماضيين، موسيقى وفرح ومداعبات للخيول ذكورا وإناثا، فابتهجوا وتناولوا طعامهم بحماسة. وحين اقترب الفارس من باب الاسطبل ذبلت حركات الخيول، فقلت له مباشرة: (لم تتخلص من حزنك وهزيمتك بعد، أخشى أنك فقدت صهيلك..).

لم يحزن أو يغضب وإنما توجه إلى البيت وعاد يحمل سيفاً قديماً قوياً تزيّن قبضته حجارة كريمة وقال: (هذا لك إلى حين، فحافظ عليه وتذكر أن الهدية لا تُهدى ولا تباع ولا تُهمل، فإن فرطتَ به فرّطتُ بك، فهو لا يُقدّر بثمن،  وسأفتتح لك عيادة لتعمل بها.. وستعاود زيارة المزرعة بانتظام، هل أنت موافق؟ على كل حال لا أنتظر موافقتك، عليك أن تنفذ ما أمرتك به). وابتسم.

 

هدية مؤقتة! لو طلب مني الفارس أن أخفيها في بيتي لسهّل الأمر عليّ وعرفت نواياها وكان الاتفاق واضحاً، واستنادا إلى منطق الهدية المؤقتة، بذلت قصارى جهدي لرفضها، لكنه قال بأنه لا خيارات أمامي سوى قبولها، واجرى اتصالا هاتفيا على الفور وسأل إن كانت الشقة 1007 لا تزال فارغة، ابتسم حين جاءه الرد بالإيجاب، وطلب من المتصل به أن يحضر سيارة على الفور إلى المزرعة، فحضرت بعد عشرين دقيقة وفيها شاب مائع وسخيف ومبتذل، تلك كانت الصفات الأولى التي وصلتني من صوته ومشيته وطريقة فتحه لباب السيارة ورائحته التي تشبه رائحة الحانات.

نظرت غير مصدق إلى الفارس فقال: (احمل السيف واذهب مع سمير، سيقلك إلى شقة مفروشة بالكامل، حتى بالملابس الأنيقة والملابس الداخلية والأحذية، حظك كبير، فجميعها على مقاسك..).

منحني الفارس ثقته دون تردّد، بدأت أدرك أنه صاحب قرار ونفوذ، وهذه الفئة من الرجال لا تتعامل مع الآخرين بمشاعرها وعطفها، وهديته المؤقته كانت دليلا كافياً لأقتنع بظنوني واحتمالاتي. لم يكن أمامي سوى الموافقة ومرافقة سمير.

خلال نصف ساعة وجدت نفسي على سرير مريح، فنمت، وحين استيقظت وجدت حقيبتي الخاصة في غرفة الجلوس، لم اسأل كيف وصلت ولا عن الشخص الذي أحضرها، ولماذا كانت مرتبة ترتيباً أنيقاً كما وضعتها أمي قبل سفري.

كنت في حاجة إلى النوم، أسلمت جسدي لنعومة الأغطية وغفوت بلذة لم أعهدها في عادة نومي. لم أقلق، خلال ثوان كنت في غياهب السبات.

بعد استيقاظي واستعادة نشاطي، قمت بجولة في الشقة كأنني أسكنها منذ عام، عرفت أماكن أدوات المطبخ كلها، الصحون، الطناجر، الملاعق والسكاكين وأعواد الثقاب وطفايات السجائر، حضرت قهوة حلوة وجلست على حافة النافذة وأشعلت سيجارة وبدأت بتأمل الليل، خربشت على ورقة هاربة من ملف قديم:

“ما من أحد يسكن الليل، لكن القمر يظهر جلياً، كأن آلف العشاق يعانقون لذة الموت، والشعراء يرتجلون قصائدهم تحت شبابيك عشيقاتهم، أي ليل هذا لا تخدشه تنهيدة أو ساكن في رحم سؤال؟”

أعدت قراءة ما كتبت، طردت الشاعر الذي تسلل لي من مكان أجهله، وبدأت أفكر بالعيادة والمرضى والحيوانات والمردود المادي وجيراني في البناية التي أقطنها، والبناية التي ستحتضن عيادتي. لم أفكر بالفارس وسيفه، بل اعترتني شكوك بشأن مقابلتي فارساً اصطحبني إلى مزرعة فيها خيول كثيرة. وجود السيف معلقاً على الجدار في زاوية أنيقة هو من أزال شكوكي. لكنني تذكرت أنني لم أثبته هناك. قلّبت الأمر في رأسي وأقنعتني بأنني اشتريته من دكان الأثريات، إمعاناً في تشويه الذاكرة.

في طريقي إلى المطبخ، لعنت فلفسة الشك التي أدمنتني، وحبي لإلغاء الحقائق لأتجنب إدمانها ولا أصاب بفجائعها، ونهض صوت قديس لامني وأنبني: (ترى من أين لك هذه الشقة المؤثثة بأفخر أنواع الأثاث، وكيف اشتريت هذه الملابس الأنيقة ومتى؟).

كنت أستهزئ بي، وللتخلص من رعونتي الساذجة توجهت نحو الثلاجة، عثرت على زجاجة ويسكي من نوع فاخر، أقنعتني أنها الزجاجة ذاتها التي اشتريتها من بقالة الحاج اليوسفي. احتسيت القليل، ودخنت سجائر كثيرة، وأجبرت عقلي على الغفو حتى الصباح.. فاستجاب. 

اترك تعليقاً