أنور الخطيب شاعرٌ بكلِّهِ عاشقٌ وبنصفهِ غريب بقلم رولا سرحان

أنور الخطيب شاعرٌ بكلِّهِ عاشقٌ وبنصفهِ غريب بقلم رولا سرحان

 

أنور الخطيب شاعرٌ بكلِّهِ عاشقٌ وبنصفهِ غريب

بقلم: رولا سرحان

رولا سرحان صورة

يأتي صوته انسيابياً تُشكلهُ الرزانة، هكذا هو صوت الأديب الفلسطيني أنور الخطيب عبر الهاتف وعبر ديوانه الأخير “كلّي عاشق ونصفي غريب” الصادر عن دار (الغاوون) في لبنان والولايات المتحدة الأمريكية. وإن كانت الغربة هي المعنى الصادم في العنوان رغم انتصاف كلّيتها في الشاعر، إلاَّ أن حالة العشق هي الكينونة الأولى له، والتي يؤكد من خلالها على استمرارية تعريفه لنفسه كعاشقٍ ممتدٍ عبر دواوينه الأربعة الأولى إلى أن وصل بكلّية عشقه إلينا في ديوانه الأخير. يستهل أنور الخطيب ديوانه معلناً شاعريّته وعشقه وغربته في قصيدة (حديث المورفين في معنى الوطن)، وعنوان هذه القصيدة وحده ينم عن وجع الشاعر العميق في منفاه وفي غربته، فـ”المنفى والعشق والغربة” كلها تعاريف يقدمها الخطيب كهوية للشاعر ولمعنى أن يكونَ الشاعرُ شاعراً، ففي هذه القصيدة يقول (أن تكون شاعراً… أن تبني وطناً من ضجر الجمر وحمى الكلمات// وأن تكون شاعراً وغريباً / أن تقاوم الانتحار بمورفين الكتابة/ أن تكون شاعراً وغريباً ووحيداً / أن تكون عرضة لخيانة الأصدقاء/ تمارس الإرهاب في الوقت// أن تكون شاعراً// ….تعشق امرأة عابثة كلما لملمتك بعثرتك).

المنفى والغربة متلازمتا الوجع

كما هو حالُ المبدع الفلسطيني، الذي يعيش إنسانيته في الغياب القسري غربةً ومنفى، هكذا هو أنور الخطيب الشاعر الفلسطيني المقيم في الإمارات الذي يُعدّلُ الآلهة على مقاس وجع الحلم بالعودة ليكون بمقدوره أن يعيشَ تفاصيل مكان عودته في الافتراض، وفي أحقيّة أن يكون الوطن جزءاً من هويته وأن يكونَ هو جزءاً من بنائه الروحي والمادي (سأصنعُ الآن آلهة جديدة لمنفاي/ تعيدُني إلى ساحلي القديم،/ أكتبه باسمي، واسم أخي/ وأبني ديراً على حافة النهر/ لا يعبُره شعبي إلى التيه) من قصيدة (ظل يحرس البحر). وهو في نفس القصيدة يسقطُ “الآخر المحتل” على “الذات المحتلة” في مسألة “العبور الموسوي للتيه”، ولكن مع الفارق في مغزى ومفهوم واستخدام مفردة “التيه”، فإن كان التيه عقاباً ونجاةً لبني إسرائيل، فللتيه صورةٌ واحدة لأبناء جلدة الشاعر حين يرى فيه هلاكاً وعقاباً، لأنّ الوعد ما بعد التيه أجوف وحتى وإن كان ذا صلة برمزية الأشياء وارتباطها بالوطن كشجرة الزيتون التي يختفي ظلّها بعد التيه وتضيع هويّتُها ولا يكونُ ظلُّها ظليلاً؛ ففي التيه (لم يعدنا أحد بظل زيتونة،/ سنزرعها ونرضعها/ زيتونة لا شرقية ولا غربية/ زيتونة بلا ظلال/ لا يستريحُ أحدٌ تحتها).

والشاعرُ الغريبُ يُفردُ لنفسه ولتعريفه للغربة نصا بعنوان (خفة الغريب) والذي يختزلُ فيه تعريفه للغربة في المسافة التي تشكل كل التفاصيل الإنسانية (...تتعرّجُ فيها الهامات/ تئن فيها الأجنحة/ أو تتعثر فيها النجوم/ من قمر مفرط بالخيانات). وهذه المسافة ملتوية وكل شيء بسببها مضاعفٌ ومضروب في اثنين (كل خطوة منا بخطوتين/ وكل شهقةِ بشهقتين/حتى إذا متنا نموت موتتين). وهذا النص الباذخ في تعريف الغريب وغربته يصير فيه الغريب خفيفاً كالحلم لكن هذا الحلم فقير (فالغريب أيها الساهرون/ خفيفٌ كحلم قبرة فقيرة) فلا شيء له، ولا شيء لديه (كلما هم بامتلاك كتاب/ قال: لا جدران لي/ وكلما أرقته الحصيرة/ واستشاط رغبة لامتلاك سرير/ قال: لا أرضَ لي/ وكلما قدحت شرارة القلب لامرأة تشاركه التصعلك/ قال: لا ضلع لي). وقسوة الغربة في المسافة لا تتجلى إلا إذا قسمت الشاعر الغريب وأحالته غريبين لأن السقطة بسقطتين، فهو حين يتعثر يسقط وحده لكنه يسمع (صدى لسقطتين/ فقد قسمتني المسافة/ كنت غريباً/ فصرتُ غريبين).

في ديوان أنور الخطيب لا يكاد يخلو نص من إحساس الغربة الذي يتملكه، والذي يصادرُ مكوناته كإنسانٍ كاملٍ ويحيله إلى خلقٍ مشوه كما يحلو له القول في نص (بين ماء وماء) حين يقول (هل من خطأ ما في الخليقة/ كي أكون مشوها!/ نصفي هنا وكلي هناك/ وكلي هنا ونصفي هناك/ أحاول منذ قرن ونصف أن أجمعني/ وفي كل مرة تستفيق شيوخ القبائل/ تطلب مجدها فدية مني/ فأضحك ملء بكائي/ وأبكي ملء ثغائي/ ألستُ مشوهاً؟)

الغربة والمنفى تعنيان الخوف والاستباحة، وحين يبحث الشاعر عن شكل المنفى يخافُ توالده وتكاثره (شكلُ المنفى يا والدي/ أن أخاف النساء كثيرا/ كي لا أنجب منفى) لأن (المنفى، انتظار بشارة من سماء مقفلة/ وحدود مقفلة/ ورؤوس مقفلة/ وقلوب مقفلة/ وأرحام مقفلة).

حتى في تعاملاته النسائية، يبقى أنور الخطيب يدور في فلك غربته وفي تساؤلاته عن شكل الوطن الذي يراه بوضوح لكنه في نفس الوقت غير واضح، لكن يبقى أنور قادراً على وصفه؛ ( تسألني امرأة عابرة نحو قرنفلها:/ “ما يبقيك هنا؟”/ قلت: أحيك لصدر المنفى سترةً/ لا لون لها لا رائحة/ على ياقتها أشكال آدميين مثلك/ يسكنون بي وأفكر: أأتركهم هنا/ أم أصطحبهم إلى هناك؟/ سألتني بضيق: “أين هناك؟”/ قلت: “كل الاتجاهات تؤدي/ إلى حيز واحد واضح لكنه؛/ ضبابي الشكل والمعنى/ مثل احتمالات البنفسج في الليل/ (من قصيدة على عتبات الخماسين).

وهو في نص (آنست فيك) عندما يبدأ القارئ بتلمس العاشق في أنور يفاجئ به يحادث أرض وطنه (روحي لديك إذن/ فإلعبي بعمري لعبة الوهج والخفوت/ إن اقتربتُ وكدتُ أن أموت/ أضيئي زيتي، وانحني لظلي/ وإن أتعب الضوء جناحي/ اكتبي على عينيك اسمي/ كي أعود مرفوفاً/ منذ ولدت واسمي يطاردني/ أودعه الآن لديك/

لو غيّرتُ عنوان النص أعلاه فيما يخص قراءتي لديوان الخطيب لقلت: (أنور الخطيب شاعرٌ بكلّه غريب وبنصفه عاشق)، إلا أن التدقيق ثانية يحيلني إلى التفكر بأن أنور الخطيب إنما أراد من كلمة (العاشق) في عنوان ديوانه الإشارة إلى عشق الغريب لوطنه، وهذا العشق إنما يغلب على غربته، فكله عاشق لوطنه، وإحساسه بالغربة ليس سوى الجزء الأقل من كينونته كشاعر، لذا قال أنور (كلي عاشق ونصفي غريب).

صحيفة الحياة الجديدة

http://www.alhayat-j.com/newsite/details.php?opt=9&id=199088&cid=2878

4 تعليقات

أضف تعليقا ←

  1. أديب عزام قال:

    انور الخطيب كل لا يتجزء مذ عرفناه يتربع على القمة ولم يتسلق إليها كما هو معروف في عالم الادب والشعر. أما الغرابة فهي غير موجودة في ادبه أو حياته فهو واضح شفاف لا يختلف عليه اثنان . يطرح افكاره بوضوح وصراحة ولا يجامل في ادبه ولا في حياته الخاصة . هذا رأي شخصي .واترك لغيري رأيه الحر .

    1. admin قال:

      أعتز برأيك أخي وصديقي الشاعر الأستاذ أديب، الحمدلله على هذه النعمة..تقديري ومحبتي

  2. فايز ابوجيش قال:

    نعم هو كلُّهُ عاشق ونصفه غريب انور الخطيب هو بناءٌ معقد من الصعب على الاخرين قراءته وان كان يوحي بدماثة خلقه وتواضع قامته بان من السهل سبر اغواره والولوج الى مكنونات سريرته من يقرأ لانور الخطيب يجد نفسه امام بحر لايحده حد ولا يزنره شاطىء مساحات من الروعة والجمال لاتنتهي ياخذك الى حيث يريد دون ان يكون لك حول ولا قوه امام سطوة السحر وامام كل هذا البناء المعقد وعندما تستفيق من سكرك تجد نفسك امام وردة

    1. admin قال:

      ما أجملك وما أجمل أسلوبك صديقي الشاعر الجميل فايز.. أرجو أن أكون هكذا، أعتز برأيك وبمحبتك، كما أعتز بحرفك المتألق دائما.. أنور

اترك تعليقاً