قراءة تأمّلية في كتاب الدكتوره ربى سابا حبيب (أنور الخطيب الشعر فعل وجود)    بقلم: عصام الخطيب

قراءة تأمّلية في كتاب الدكتوره ربى سابا حبيب (أنور الخطيب الشعر فعل وجود) بقلم: عصام الخطيب

قراءة تأمّلية في كتاب الدكتوره ربى سابا حبيب (أنور الخطيب الشعر فعل وجود)
تقنيته الشعرية تستجيب لروح العصر
ونصّه كونيّ الأبعاد، عجائبي التجربة
بقلم: عصام الخطيب


الشعر فعل وجود ..كتاب من تأليف الدكتورة الأكاديمية والعريقة ربى سابا حبيب، قراءة تحليليّة وفكريّة بأسلوب فلسفي واستشرافي لشعر وفكر وفلسفة الشاعر أنور الخطيب، إضافة إلى أنه دراسة أكاديمية لأديبة كبيرة وشاعرة مبدعة، وهو أول كتاب نقدي وموضوعي يتناول شعر الخطيب نصّا وروحًا ومعنىً، وهذا يعطي الكتاب أهمية أدبية وإنسانية وأبعاداً فكرية عديدة.
وأنا كقارئ، لن أقدم قراءة نقدية، بل قراءة تأمّلية محضة لهذا الإنجاز الراقي، والذي أوجزت فيه الكاتبة رؤيتها الفذّة والعميقة في تفكيك نصوص الخطيب وتشريحها، حيث أبدعت في فقه جينات الشاعر روحياً ووجوديًا لتضيء المشهدية بنور وجدانها ووهج روحها التي تنبض شفافية وصدقية،بعيدة كل البعد عن أن تكون انتقائية،وهذا ما يميّز الكاتبة عن سواها في عالم الفكر والفلسفة والأدب.
سأبدأ من خاتمة الكتاب كونها بداية لآفاق مستقبلية وجدلية، لفتح كوة في سبر فكر الشاعر للمتلقي قبل النقاد، من منظور الكاتبة، بحيث أبقت الباب مواربًا، ليس لاحتمالية أن يؤسس لحقبة في فهم الحداثة فحسب، بل لاستشراف وجودي وزماني، يؤطر العمل الأدبي في كونية وعالمية للأجيال القادمة، كون شعر الخطيب في إنسانيته وخاصّيته الفريدة يختصر في شعره مفهوم الحداثة، والتي تتلاءم مع مفاهيم العصر وترقى إلى العالمية، وهذا يعيدني إلى عنوان الكتاب، فالشعر رسالة قبل أن يكون استرسالاً وديمومة في اللامكان، تفوق كينونة المكان والفعل في حركيته متواترة ومتصاعدة، حاضرًا نحو صيرورة وجودية أبدية !!
تقول الكاتبة أن الخطيب يتمتع بخيال تصويري يرتد الى مبدأ أرسطو في المحاكاة، وفي إعادة خلق الواقع وفق نظرية الرموز الشعرية، وتدعو إلى التيقّن بأن التحولات تتحقّق بواسطة الحزن الشعري، وهو آت من بلاد محملة بتاريخ قاتم ارخى بظله أمام الظلم والقسوة، إشارة الى نكبة فلسطين، وافتراقه قسرًا عنها،وحين يكتب ينبش في رماد الذاكرة الحسّية لتبدأ المأساة وتتحول إلى تراجيديا ..
وحين تصف الدكتورة ربى الشاعر الخطيب أنه من كبار شعراء العرب وأندرهم تجربة حقيقية، وتقنيته الشعرية تستجيب لروح العصر وحاجته لتتجاوز المستدام والمستحيل في آن ، وهذه شهادة حق من أديبة وناقدة كبيرة وهي الجديرة في وصف الشاعر وهذا مصدر اعتزاز.
وتضيف: ولد الخطيب كي يكتب الشعر، نصّه كونيّ الأبعاد، عجائبي التجربة، والخطيب شاعر مغروس في زمنه، ولم تقل مكانه، لتدلّل على جذوره الفكرية، والزمن حسب فهمي، كل ما هو حسّي وخلاّق، وكل ما هو متواتر كالفصول، وكل ما هو جميل كالخلق، وكل ما هو أزلي كالحرف..
وتردف: في فكر الخطيب، يغدو التسامي صفة ملازمة للكتابة، تلك التي تلغي المسافات والمستحيل، استحالة اللقاء بالأرض، واستحالة الإنسلاخ عنها، وكيف لا وهي التي قرأت الشاعر الإنسان وخبرته عن قرب، ورفعة اخلاقه في كسر المسافات ، ولو كانت الجغرافيا تحول دون لقاء أرضه، لن تمنعه من التصاق روحه وحسّه بها.
وتضيف: نصوص الخطيب، هل هي شعر يرقى إلى صلاة المنفى؟ شعر يشهد الإنشطار الأبدي عند الفرد الفلسطيني؟ فهو تراجيدي، حين يسقط العدل ينشد للحرية، وتتّحد الأنا بالنّحن، ليصبح شعره رحلة صوب المطلق ، الأرض ضد الهزيمة، وهزيمة الهزيمة في صراع أزلي، وهنا تتّقد ذاكرة الكاتبة وجدانيًا لتلاقي الذاكرة الجمعية عند المجتمع الفلسطيني، حيث يؤدي فيها الشاعر صلاة المنفى بعد أن غاب العدل وتشرّد الإنسان في المنافي، وأضحى ينشد الحرية لأرضه، وهزيمة شعوره بالأنكسار، في صراع أزلي بين الظلم والعدل، وفي صراع نفسي بين شعوره بالهزيمة ووأد الفكرة في صراع أزلي أقسى وأشد!
تقول الدكتورة، أنه كلما ارتقى العرب في الحضارة كلّما تربّى الذوق على الشعر المحدث، والنقد المنهجي لا يتوفر إلا مع سيطرة العقل، فالنقد الناتج عن الانفعال لا يعلّل. وهنا أتفق وكثيرين غيري مع طرح الدكتورة ربى الصائب والوازن جدًا.
ينبع شعر الخطيب من اتقاد المخيلة الجمعية لشعب مظلوم، لتظل تجربة الخطيب الشعرية في حالة توقد مستدام.. وتقول الكاتبة، وأنا أرى فيه شاعرًا يحمل فكرًا ثوريًا، وفكرة الثورة عنده تمرد على كل ما هو عبثي وشعبوي وديماغوجي…
أيضا تقول الشاعرة الكبيرة عن الخطيب إنه شاعر يتميّز برؤية مجتمعية ثائرة على القيم السائدة والأساليب التقليدية المكررة والمملة..وتجربته فريدة، يتمتع بصبر تاريخي عتيق، وكأنه مع كل شذرة في نصه تتحوّل إلى شعلة مضيئة تكشف أسرار إبداعه للدلالة على أن الشاعر يحاكي في شعره شعبه ويحضّة على كسر التقاليد البالية والمؤطرة تحت عناوين جمّة، وشعارات مستنزفه، وينبض فكره حرًا كأنه تعتّق في خوابي شعره وانعتق من رمادية المشهد إلى شعلة النور فتوقد ..
إن ابتعاد الخطيب في شعره عن الغنائية دليل على أن شعره يختزن فلسفة ما أو رؤية يتقدمان في القصيدة، ويطغيان على مجمل نصوصه وتكاد تشكل ملحمة وطنية وراقية في آن..
تقول الدكتورة ربى عنه: شاعر محدث يدخل وينطلق من ذاته ويرتد إليها لينفصل عن الموروث، مستخدمًا المعاني والمفردات الحديثة، وينتج معجمًا خاصًا به. وبرأيي هذا دليل على تجدّد الشاعر في حركيته الأدبية وارتقاءه بالحداثة إلى مكانة متفردة في طروحاته ونتاجه.
إنّ قدر الإنسان الالتصاق بالأرض والأم والرحم، وعند الشاعر يتكون من دم وتراب، كلاهما ينبوع شوقه المزمن، أما روحه الشاعرة فتوقدها الفاجعة، وعن طريق دخوله في الشفوف الروحي، تأتي كلماته متوهجة لتعانق فلسطين، وإلى الأبد، وكأني أمام عناق الكاتبة وعشقها لفلسطين تتماهى مع إحساس الشاعر، وتبنّيها للقضية الأحق، الدكتورة ربى سابا عاشقة فلسطين، وستبقى وأجيالها في ضمير كل حرّ وشريف في بلادي أيقونة مجد.
عود على بدء، تقول الدكتوره في الكيف والكم والمبنى في شعر الخطيب، يرتبط بالفكر الأروسطي، أي مفهوم الوجود بالقوة وبالفعل، أي ابتداع الفكرة وقوة تأثيرها وتطورها عبر الزمان في ديمومة وارتقاء تشكل حالة وجودية ، والروح ليست نسمة عابرة، بل هي مثقلة بالباطن وتدور في أفلاك الحق، أوليس الحق مطلق؟ وهذا ما يسري على الشاعر، شعره يكمن في روحه، في مخاض ينبلج يشق الفجر، يصنع ويرتق، في أبجديته لهاث سنيه، كأنه والزمان سيّان، روحه فوق راحته كما الزيت كامن في الزيتون، والنار في الحجر، والماء في الهواء، فهل يشكّل الشعر فعل وجود؟ نعم، كونه يشكّل نقاط ارتكاز لعالم فكري يتشكّل من جديد نواته التجدد.. فهل تُدخلنا الدكتورة ربى في عظيم كتابتها وشعر الخطيب في جدلية الذات والآخر وعلى حد قول المتنبي (تكسرت النصال على النصال). فالأثر يبقى خالدًا، وعظمة ما خطته في كتابها عن الخطيب هي رسالة ودراسة قيمة آنية في طور الآتي، كون المسافة برأيها بين الفكرة ومعناها، ترقى بالشّكل الذي يجترحه الشاعر مرورًا بمبدأ الجمال.
كل الشكر والتحية لأيقونة الثقافة ودرة الفكر وجوهر الإبداع، الأديبة الكبيرة والناقدة والأكاديمية الأرقى الدكتورة ربى حبيب سابا..

اترك تعليقاً