رام الله.. أكون أو لا أكون

رام الله…
ماذا يعني أن أكون الآن في رام الله؟ وماذا يعني أن لا أكون الآن في رام الله؟
المسألة أبعد من مقولة شكسبير (أكون أو لا أكون)، وابعد من فلسفة ديكارت المعدلة: (أنا في رام الله إذن أنا موجود)، وأبعد من التأرجح بين الحضور والغياب، فحين أحضر يكتمل النصاب،

وحين أغيب يكتمل النصاب، فأنا موجود حين أكون الآن هنا، وموجود حين لا أكون، موجود بكل ما تعنيه (الميم) من مهجة الروح، و(الواو) من حرقة الوجد، و(الجيم) من جحيم البعد، و(الواو الأخرى) من احتدام الوعد، و(الدال) من دالية تعربش فوق (عريشة) الدمع، هكذا، تنقلني الحروف دون وعي منّي إلى مهجة الوجد ونار البعد وهاجس الوعد ودمع دالية في عيون الغريب، كأن الحضور والغياب لا يمكن التعبير عنهما إلا بالخفق والنبض، حيث تجد الفلسفة نفسها مهملة خلف عينين جاحظتين في تضاريس خارطة يحدها من الشمال أبي، ومن الجنوب أمي، ومن الشرق أخي، ومن الغرب جدتي، وكلهم رحلوا وأوصوا بأن يُدفنوا في رام الله، وهنا، رام الله، ليست المدينة، وإنما الله وهو يرمّم المسافة ويحقق الوصايا، ولهذا، حين أكون في رام الله أكون سائرا وحولي أرواح أربع تهمس لي جميعها: متى سنذهب إلى (شَعَب)، وحين لا أكون في رام الله أكون سائرا أحمل على كتفيّ أربعة جثامين.
كم هو الحمل ثقيل أيتها الجهات، كأنني الآن على وشك طي الشمال في جيب الجنوب، وفرد الشرق على صدر الغرب، لا، ليس ذاك الطي الأسطوري المترف بنزف آلهة العشق وصخب آلهة المجون، إنه طي لحاف الروح وترتيبه ومنحه للغياب، لأبقى أتقلب بين السماء والطارق، أتسلى والبرد، نحكي قصة رعونة المطر حين يغيب عن رام الله، وأنا، لست مطراً، قد أكون غيمة أو برقا أو رعدا أو زئير رياح، لكنني لست المطر، لا أجرؤ أن أكون مطرا،ً كي لا تتبلل تلك الجثامين الملقاة على كتفي، لكنني، أجرؤ أن أكون شجرة في رام الله، لأن جاري في بيت لحم سيخلق لي معجزة، كأن لا أتبلل وقت المطر لتبقى الأرواح تهتف، ولا بأس أن تكون في حالة من الشغب، وتصرخ: متى سنزرو (شَعَب).
هو حديث أشبه بحالة من الهذيان الواعي جدا، أن أكون الآن في رام الله، هي أقرب إلى حالة شاعر احتسى نبيذ الأرض كي يدرك أنه لم يعد يحمل جثامين أربعة على كتفيه، وأن لا أكون في رام الله، أقرب إلى حالة شاعر احتساه نبيذ الأرض ويكتبه القدح الفارغ قصيدةً رعناء، ترفض أن تكون ولا تكون، وترفض أن تشك لتثبت أنها على قيد الحياة، وترفض أن تستمرئ المراوحة بين الفرح والحزن، رغم أنهما لا يدخلان في منطق الحضور ولا تداعيات الغياب، فأن تكون هو أن تحتسي كأسا يملؤها جاري في بيت لحم كلما فرغت، وأن لا تكون لا يعني أن يحمّلك صليبه لتمشي على درب آلامه، ولكن، أن يضع على رأسك التاج المسنن حتى تدرك أنك هنا وهناك وفي كل مكان، لكنك لن تكون في رام الله، حيث الرب يرمّم المسافة ويفتحها لأصحاب السيرة الحسنة والسلوك المؤدب، ولست منهم، ولن أدر خدي الأيمن لأحد، فأن أكون في رام الله، أن أمنح خداً لأمي وخداً لأبي، لأحظى بقبلة أخيرة، لم أحظ بها حين كانا على قيد الأمل، فهل يعني هذا، أن أكون في رام الله هو أن تنبت دالية على كتفيّ بدلا من الجثامين؟ وهل يعني هذا، أن لا أكون في رام الله أن ….
لن تنتهي المراوحة يا أنا، كنت هنا أو كنت هناك، سأبقى على ظهر موجة حتى تلقي بي على شاطئ عكا، ولا بأس أن نبني بحراً في رام الله، وموجاً شرساً ينهي هذه السباحة المربكة..

نُشرت في صحيفة الحدث- فلسطين
http://www.alhadath.ps/article.php?id=60d17y396567Y60d17

اترك تعليقاً