كنفاني بين زمنين
بقلم: أنور الخطيب
اختفى جسد الرجل، يا ويلتاه، كدخان سيجارة، شفطه الهواء حتى لم يُعثر له على أثر، يصعب القول، إن الأشجار الباسقة تنفّسته وأنتجت أوكسجينها في الليل فتحسّنت صحّتها، والطيور المهاجرة والنسور الكاسرة، كانت تحلّق وقت الانفجار، والتقطت ما تناثر من لحمه وأفكاره وخيالاته. إن كان هذا ما حصل لجسد العاشق المجنون، ابن ال36 عاما، ترى ماذا حدث لجسد لميس الطري، عجزت الأشجار والطيور المتوحّشة عن العثور على قطعة لحم بحجم ذرة هواء. في الحالتين، غسان ولميس، ذهبا مباشرة إلى الله، ولم يمرّا بالجنازة والقبر ودموع الأربعين ألف مشيّع، لم يكن لديه الوقت ليودّع بيروت وعكّا ولا حبيبته “آني هوفر”، ربما اتسع الوقت ليقول لغادة “يلعن دينك قتلوني”. كأن الله خلقه ثم أعاده خلال ثوانٍ، وخلال هذا الزمن، كتب غسان بدمه الحلو السكّري، وبأنفاسه المشبعة بالنيكوتين، ما قضّ مضج دولة بأكملها، بل أمة الضاد من مائها لمائها، وإلا كيف وصل الأعداء إلى الحازمية في بيروت؟
أي جدار خزّان تدقّ الآن يا رفيق، والخزّانات تنتشر كالجراد على الحدود، في البر والبحر والسماء، وتضاعفت أحجامها وأشكالها وألوانها، بحيث يستحيل سماع المحشورين، وهروب سائقي الشاحنات والقوارب والطائرات، تركوا اللاجئين مع الله واسماك القرش وأفاعي وعقارب الصحاري، والمطبات الهوائية، لا أدري من سبق الآخر لتعذيبهم، أو تخليصهم من العذاب، كانت وجهتهم “أرض الإمبريالية” يا غسّان، يحلمون بمستقبل آمن لأطفالهم وقططهم، منهم من غرق أو احترق، ومنهم من وصل واصطف في طابور الوجبات، ووجدوا أنفسهم أمام “إعاشة” من نوع آخر، وتحرّش بلغات أخرى، وعليك أن تشكرهم، (يسرقون رغيفك ثم يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم…). وطبّقوا مقولتك: (إذا أردت أن تحصل على شيء ما، فخذه بذراعيك وكفيك وأصابعك)، وأخذوه بأرواحهم، رموا أطفالهم إلى البحر ليصل أطفال أخرون، وعند النجاة اكتشفوا مهزلة الوصول: (كل دموع الأرض لا تستطيع ان تحمل زورقًا صغيرًا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود..).
لم يهرب هؤلاء من “الأنظمة الرجعية”، هربوا من رجال لم تُخلق أكتافهم لحمل البنادق، بل تحمل نجوماً سداسية، ومنهم من يقولها بالفم الملئان: (إسرائيل وُجدت لتبقى..)، وأتباعهم غيّروا القضية، وليس كما قلت: (إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا تغيير المدافعين لا القضية..). وصارت قضيّتهم محاربة الإرهابيين، ولو تعلم يا غسان من هم الإرهابيون، هم أحبابك الفدائيون، الذين تمرّدوا على الدولار وارتضوا بالزيت والزعتر والزيتون والبقاء في المخيمات في فلسطين.
ماذا؟ فلسطين؟
نعم فلسطين يا رفيق، أعني على 20% من الضفة الغربية، وقطاع غزّة، لا، الطريق ليست سالكة بين الضفّة والقطاع، ثم أن الحكومتين متقاتلتان، لا ليس سوء فهم، خلاف جذري، لا ليس حول فلسطين وكيفية تحريرها يا رفيق، هنالك أسباب أخرى معلنة لا أصدّقها، والدليل أنهم يعقدون اجتماعات منذ سنوات طويلة ويفشلون في المصالحة، تستطيع القول إن لدينا حكومتين، ورئيسين، وشعبين وفلسطينين صغيرتين.
-
(الوطن ليس شرطًا أن يكون أرضًا كبيرةً، فقد يكون مساحةً صغيرةً جدًا حدودها كتفان..).
أعلم ذلك، لكن الدولتين صغيرتين، وتقتاتان على الدول المانحة و(الأونروا)، ودول أخرى داعمة، نسيت أن أخبرك أن الجهة التي تدعم حكومة القطاع تختلف عن الجهات التي تدعم حكومة رام الله، هل تعتقد أنه سببٌ كاف لسوء الفهم، أو عدم المصالحة؟ لن أرهقك بالإجابة لأنني على علم بها وأخواتها، لكنني بكيت قبل أسبوع وأنا أبحث عن مقولاتك لأوثّقها، وأول مقولة عثرت عليها هي: (إنّ الجلوس مع العدو -حتى في إستديو تلفزيونيّ- هو خطأ أساسيّ في المعركة). يا إلهي يا أبا فايز، أنت اختفيت من هنا، وبدأت المفاوضات مع العدو من هنا، أعني قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة الأمريكية، أي قبل تفجير أبو حسن سلامة في العام 1979 بسنوات قليلة، وكان أبو حسن ينسّق مع دائرة صغيرة جداً في منظمة التحرير على رأسها الشهيد ياسر عرفات، حتى اتخذت إسرائيل قراراً بقتل الرجل بعد مشاورات مع استخبارات الولايات المتحدة، وأرسلت له امرأة، كان لا بدّ أن يرسلوا امرأة لقتله. منذ ذلك الوقت، بدأت “الأخطاء الأساسية” في المعركة. كنتَ رقيقاً يا غسّان حين وصفت الجلوس مع العدو، حتى في استوديو تلفزيوني، بالخطأ الأساسي في المعركة، لماذا لم تصف الفعل بالخيانة؟ أعلم السبب، لأنك قرأت المستقبل، فلو وصفت الجلوس مع العدو تلفزيونياً بالخيانة، بماذا كنت ستصف من يسهر مع العدو، ويتناول العشاء مع العدو، ومن يعشق العدو، ومن يحمي العدو، ومن يستنكر العمليات الفدائية ضد العدو؟ ماذا كنت ستصف من يعانق العدو، ويبني له المستوطنات، ويرسل العمال الفلسطينيين للعمل لدى العدو؟ ماذا كنت ستقول يا رفيق؟ خيانة؟ جريمة؟ زنا؟ ما سبق كله يحدث الآن، في زماننا، وأعني قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
-
ماذا عن المخيمات؟ وأم سعد؟ والعائدين إلى حيفا؟
لن أحدّثك عن أم سعد يرحمها الله، ولا عن العائدين إلى حيفا، لم يعد أحد، أما المخيمات الفلسطينية، وخاصة في لبنان، حيث أنا، لم يتبقّ في سكانها سوى أقل من 150 ألف فلسطيني من أصل 450 ألفا مسجلين في الأونروا ودائرة شؤون اللاجئين، بعض شبابها قاموا باعتصام أمام السفارة الكندية مطالبين باللجوء الإنساني، والبعض الآخر ركب الأمواج في قوارب الموت للهجرة إلى أوروبا، والبعض الآخر يعتاش على دولارات حركة التحرير الوطني الفلسطيني ودولارات تيارها الإصلاحي ( ولا أفهم ماذا يريد أن يصلح طالما أن السياسة واحدة تجاه العدو ومن يدور في فلكه)، والبعض المتبقي عاطلون عن العمل، ليس لأنهم يحملون شهادات وفشلوا في إيجاد وظائف، بل لأن منظمة التحرير بكل فصائلها ولجانها الشعبية فشلت في خلق الوعي الوطني والتنمية البشرية والإنسانية والمجتمعية، ولن أصف أكثر لأنني اشعر كمن يأكل لحم أخيه نيئا. لكن يجب أن تعلم أن المخيمات في طريقها للتصفية، الوسيلة ليست مهمة؛ تصفية، قتل، تهجير، تجنيس، ترحيل، دمج، إلغاء الأونروا، ولا أحد يمتلك جواباً أو تصوّرا حول: شكل المخيمات بعد عشر سنوات.
زمانك غير زماننا يا غسان، هل يعقل أن يتم كل هذا الدمار السياسي خلال خمسين عاما؟ كأنك لم تكتب شيئاً يا رفيق، كأنّك لم تحفر ولم تصرخ ولم تدقّ جدار الخزان. يمكنك مناقشة الأمر مع الحكيم لو قابلته؟ يرحمك الرحمن.
مجلة الهدف العدد 1514
https://hadfnews.ps/post/103693