زمن الحزن إلى بيروت تسعون دقيقة بقلم: حورية عبيدة

ترنيمة عشق/
(زمن الحُزن إلى بيروت تِسعون دقيقة)
بقلم: حورية عبيدة

للحُب والجَمال؛ للرّومانسيّة وقطرات النَّدى؛ للأنوثة والدّلال تَهيأتُ.. للنّوارس والبجع؛ للؤلؤة البحر؛ لسِتّ الدّنيا؛ لزخّات مطرٍ تفترش الغابات والأنهار والوديان؛ حزمتُ حقائبي.. وأسكنتُ خيالي مِيناء العشق، وتركتُ رُوحي تسبح صَوب مغارة أحلىٰ الملكات؛ لتهامسَ رِقّة الحوريات.

إلى “بيروت” قررتُ السّفر؛ إلىٰ عاشقة الحياة والسّهر؛ إلى بلد كل ما فيه يشي بالاشتهاء؛ إلىٰ الوردة الجُورية التي تُصر علىٰ الحياة ببهاء مهما ناوشها الفناء.

وسط لوحة طبيعية بديعة حطَّت بي الطّائرة؛ البحر عن يميني، والجبل السّامِق عن شمالي يحتضنُ ضيعاته، وفردوس أخضر تحتي يشتهي وَطء قدمي؛ وشعاع شمس المَغيب يشاكسُ عيني بلا خجل؛ أتحسسُ وجهي فيُعجبني وهجي.

يتلقاني السّائق “عليّ” بلهجته اللبنانية المُحببة: “سِت حورية ناطِرتك هون من شي ساعة”؛ أَبتسِمُ غير عابئةٍ بالرّد؛ مشغولةٌ أنا بوسامته الأوروبية اللافتة؛ أسأله فيجيبني بأنّ أُمّه من “أوكرانيا”.

يتيقظ حسّي الصّحفيّ ويطل برأسه داخلي فأسأله ثانيةً: وماذا عن اللبنانية ؟! يجيبني: “بدَّها مصاري كتير، والحالة الاقتصادية هون واأعة”.

اتنبه وأُنهي الحوار على عَجل؛ أُذكِّرُ نفسي بأنّي قد جئتُ أقضي بضعة أيام بعيدًا عن الهموم والأحزان.

أعاود الغَوص في حُلمي الجميل لأُكللَ أول ليلةٍ لي ببهاء “بيروت”، أتلفتُ حولي في شوارع المدينة العتيقة فيلفتني أناقةُ نسائها، ونظافةُ شوارعها، ويأبىٰ عقلي إلا أن يعاود فِعلته فأناديه: “عليّ.. أين النّاس والزّحام ؟! أين أكوام القمامة التي فَجّرت الأحداث ببلدكم الجميل مؤخّرًا ؟! أين ذهبتْ أضواء “شارع الحمراء” حتى بات مُظلمًا باهتًا هكذا ؟! “يبتسم السّائق ساخرًا: “سترينها حالًا..”.

نصف ساعة تمُرُّ حتى رأيتَ كَومةً صغيرةً؛ صرخ “السّائق” مُشيرًا بيده: “هوووون”، وجَّهتُ وجهي للنّافذة؛ أُخفي ابتسامةً ساخرةً ندّت عنّي؛ وأنا أتذكرُ قمامة “القاهرة” الهائلة.

يكْمِل “عليّ”: “أمّا عن الزًحام والنّاس وأضواء الحمراء؛ فالحالة الاقتصادية مُتردّية؛ يكفي أن تَعلمي أنّ الدّولار الواحد يعادل ألف وخمسمائة ليرة لبنانية.. (!!) العُمْلة واأعة واأعة”.

يُصرُّ “عليّ” علىٰ أن يضع وجهي مباشرةً أمام جدار الحزن العربيّ فيكملُ: “لبنان ضحية العملاء والخونة والمأجورين والرّشاوي والعمولات وتجارة المخدّرات؛ كل من حَكمَه يساهم بجدارة في إشعال فتيل الفتنة الطّائفيّة، طول عُمرنا وعُمْر آبائنا وأجدادنا لم نَسمع كلمة: “سُنّيّ أو شيعيّ أو دُرزيّ أو يهوديّ”؛ فكلنا جيران وأصحاب.. أنا مثلًا شيعيّ وزوجتي سُنية، وأمّي شيعية وأبي سُنّيّ !!
كلُّ حاكِم لبناني بِدُّه يهدم لبنان؛ فليرحلوا عنّا ولن نبكيهم أبدًا؛ وسيعيش “لبنان” بكافّة طوائفه كما عاش من قبل”.

أشاكِسه بسؤالي: ومَن هو الزّعيم الذي أخْلصَ لبلدكم ؟ يُجيبني من فوره: “جمال عبد النّاصر؛ وما تزال صوَرِه مُعلقة على جدران الأباء والأجداد” (!!)

أقضي أول ليلةٍ بـ “لبنان” لأكتشفَ أنّ شعبه يعشق الحياة؛ يروضُ أحزانه؛ الشّراسة سَمْتُه حين يحارب ويقاتل نهارًا.. لكنّه يمرح ويحبّ ويرقص ويسهر ليله ويمارس عشقه لذاته أيضًا بشراسة.

اللبنانيّ “يدّايّن مِن شان يزّايّن” مَثلٌ شعبيّ عندهم؛ يعني أنّه قد يقترض مالًا من أجل أن يمارس بهجة حياته ليلًا؛ ويقيني أنّه لولا عشقهم للحياة ما بقِيت بلدهم رغم الحروب والفواجع التي ألمّت بهم.
وهنا تَذكّرتُ “نزار قباني” وهو يرثي “بيروت” في إحدىٰ مصابها الجلل بقوله: “الأن عرفِنا معنىٰ أن تقتل عصفورًا في الفجر.. هل كُنًا نغار من جَمال بيروت ؟”.

خمسةُ أيامٍ مُدّة رحلتي لـ “بيروت” الجميلة؛ صعدتُ “غابات الأََرز” حيث درجة الحرارة “صفر”؛ ومازلنا في بداية موسم الشّتاء !! ومارستُ متعة ركوب “التّليفريك” إلى”سيدة لبنان”، ويُقصد بها “السّيدة مريَم العذراء” وتمثالها الشّهير بمنطقة “حَريصا”؛ والتي ترتفع عن سطح البحر بنحو 2400 مترًا، وإلى صخرة العشاق أو “صخرة الرّوشة” كانت الرّحلة البحرية الماتِعة.

كدتُ أنهي يومي مبتهجة حتىٰ تفاجأت برؤية أعدادٍ كبيرةٍ من الشّحاذين يعجُّ بهم كورنيش بيروت: لبنانيين وعراقيين وفلسطينيين وسوريين لن يفلتوك أبدًا قبل أن تجيب مَطلبهم؛ بعدها تمضي وأنت تنوءُ بجبال من الألم والغصَص والهمّ العربيّ !!

توجّهتُ إلىٰ “الفَرِيّا”.. حيث أشهر مناطق التّزلج على الجليد بلبنان فلم أجد أحدًا !! تتسابق نحوي السّيارات المخصّصة لصعود الجبال؛ فنصف السّاعة بـ 70 دولارًا؛ لكن فجأة يقترب منّي أحدهم بقوله: “أوافق على عشرة دولارات فقط” !!
لحظتها تذكرتُ “عليَّا” وتأكيده علىٰ تردي الأوضاع الاقتصادية واختفاء السّائحين وترقب فواجع تأتي نتيجة الأوضاع المتأزّمة في “سوريا”، رغم أن “ديسمبر ويناير” هما الموسم السّياحيّ السّنويّ المنتظَر للاحتفال بأعياد الميلاد والتّزلج علىٰ الجليد.

أُكملُ رحلتي لمغارة “جِعيتا” ثم “القلعة” وبعدها “متحف المشاهير”؛ أمُرُّ بالمطاعم؛ والفنادق؛ والمُولات؛ فلا أجد إلا الرّكود والصّمت والأحزان والليل البارد يجتاح “لبنان” !!

تتسلّل إلى رُوحي أغاني “فيروز” من كل ناحية؛ يتناهىٰ إلىٰ سمعي أغنيتها: “سألوني شو صاير في بلد العيد، مزروعة ع الدّاير نار وبواريد، قلت لهن بلادنا عم يخلق جديد، لبنان الحضارة والشّعب العنيد”.

ألمحُ صورة زعيم إحدى الطّوائف المعروف بدفاعه المستميت عن الفقراء؛ أسأل “سائق التّاكسي” فيجيبني مستهزءًا بأنّه فعلًا زعيم الفقراء، فزوجته تملك 182 عمارة سَكَنية !! ووصل رصيد ابنه في البنك إلى 4 مليار دولار فقط !!

“لبنان” بلد المتناقضات؛ بلد الجوع القاتل والشَّبع الفاجِر.. بلد الأناقة والشّحاذة.. بلد المرح والرّقص والبهجة وبلد الحزن والألم والفواجع..

الرّحلة من “أبوظبي” -حيث رَكبتُ طائرتي- إلىٰ “بيروت” مِقدارها ثلاث ساعات؛ قطعَتْها الطّائرة في أربع ساعات ونصف بزيادة قدرها تسعون دقيقة؛ والسّبب أنّ المجال الجويّ للعراق والأردن وسوريا وفلسطين مُغلق؛ فكان ولابد أن تمرَّ الطّائرة بالسّعودية ثم مصر متجهة إلىٰ لبنان.

تسعون دقيقة -زيادة- بالطّائرة اختصرت آلام ومآسي “الهلال الخصيب”؛ اختصرتْ أحزان تقسيم العراق وبلاد الشّام على موائد اللئام.
فكَم “تسعين” يارب نحتاجها لنستعيد وطننا المَسلوب ؟ تسعين يومًا.. أم تسعين شهرًا.. أم تسعين سَنةً ؟!
#حورية_عبيدة
#المشهد
كتبتُ مقالي هذا عام 2015

اترك تعليقاً