القصيدة في مواجهة المستعمِر: نحو وعي وطني خلَّاق بقلم: جواد العقاد

القصيدة في مواجهة المستعمِر: نحو وعي وطني خلَّاق
التاريخ:
26/08/2025
المؤلف:

لا يمكننا اليوم، في هذا الواقع الفلسطيني المتأزم، مواصلة المراهنة على معادلات ثَبَتَ عَجْزُهَا، إذ إننا أمام لحظة وعي فاصلة تستدعي إعادة صوغ الوعي الوطني الفلسطيني في مسار وحدوي لا يعرف إلاَّ فلسطين كهدف ومآل. وإنَّ تجاوُز الأيديولوجيات المستورَدة والمعلَّبة التي يمكن أن تنفع مع قَوْمِيَّاتٍ أُخرى هو ضرورة، لأن الثورة لا تُستنسخ، إنما تُبدع من رحم المعاناة، وتولَد من جرح الذاكرة، ولا تستعير منطلقات ولا أدبيات خارجية، لأن استيراد الرؤى والثقافات يؤدي في النهاية إلى إنتاج وعي مشوَّه، ولا يحقق شيئاً سوى مزيد من الضياع، أي أن الثورة طاقة خَلَّاقة، تنتج قِيَمَهَا وترسِّخ إرثها الخاص، وتساهم في ولادة الإنسان الفلسطيني الجديد المتحرر من كل المؤثرات التي من شأنها حرْف البوصلة عن مسارها الحقيقي، كما تصنع ثقافتها ولا تستعيرها، وهي في جوهرها، وعلى تعدُّد تجلياتها السياسية والثقافية والاجتماعية، تمثِّل وعياً متقدماً بضرورة التحرر، ومرآةً للمزاج الجمعي الذي يعيش تحت نير الاحتلال، لكنها لا تتماهى معه، إنما تمثِّل قفزة على واقعه نحو المأمول.

والثورة في حالتنا الفلسطينية ليست خياراً سياسياً وحسب بقدر ما هي رغبة عارمة في استعادة الحلم الوطني، وبناء الدولة الكاملة على امتداد الجرح والتاريخ. والثقافة في جوهرها مقــاومـة، والإعلام، والأدب، والموسيقى، والتعليم، كلها أدوات توعية وإحياء لذاكرة الإنسان الفلسطيني، باعتباره جمرة الحلم؛ فالصراع ليس فقط على الأرض، بل أيضاً على الوعي والرموز والمفاهيم.

لهذا، فإننا حين نقول: “عهد الله ما نرحل”، فنحن لا نطلق شعاراً بقدر ما نعلن تمسُّكنا بالهوية والانتماء في مقابل أحد أخطر الشعارات التي ابتدعتْها الصهيونية في بداياتها؛ “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، والتي حاولت عن طريقها طمْسَ الوجود الفلسطيني. غير أن يهود العالم حين وصلوا إلى فلسطين، فوجئوا بأرض عامرة، مملوءة بالحياة والناس، ولم تكن صحراء ولا أرضاً خالية كما رُوِّج.

ولِفَهْمِ العقل الصهيوني، فإنه لا بدَّ من تفكيك خطابه الشِعري/الثقافي الذي يُجمِّل الاستعمار ويحوِّله إلى قَدَرٍ مقدَّس، وهنا نقرأ، على سبيل المثال، للشاعرة نيللي ساخس:

اطردوا كل الخونة من البلاد اليهودية،

لا نريد هنا إلاَّ كل صهيوني حقيقي

يصرخ أمام الملأ: يهودا والسامرة لنا  [1]

إنه نصٌّ يتحدث بلغة الطرد والإقصاء، ويعيد إنتاج الأسطورة التوراتية بلغة معاصرة محمَّلة بالكراهية، ويحوِّل الأرض إلى ميراث “نقي” لا يقبل الآخَر. والشعر هنا لا يبحث عن الجمال، إنما يمارس الإزاحة، ويبرر التطهير.

ويعبِّر النص عن مشروع توسُّعيٍّ محكوم بروح الخلاص الديني الزائف، ويدعو إلى طمْس العربي وجعْلِه هامشاً في مشهد الهيمنة. إنها قصيدة تأسيسية تُخفي في جملها استعماراً لا يرحم، وتُقدِّس وهماً يتغذَّى على اغتيال الحلم الفلسطيني.

أمَّا الشاعر يهوذا عميحاي، فيكتب:

هذا هو وطني الذي يمكنني فيه أن أحلم دون أن أسقط

وأن أرتكب أعمالاً سيئة دون أن أضيع وأن أهمل امرأتي دون أن أصبح معزولاً

وأن أبكي دون خجل وأن أخون وأكذب دون أن أتعرض للهلاك[2]

هذه القصيدة تصف “الوطن” كملاذ أخلاقي للفرد المنفلت؛ كوطن لا يُحاسِب، ولا يُلزِم بشيء سوى الهوية، وكأنَّ الحق في الوجود يعلو على أي التزام تجاه العدالة أو الأخلاق أو التاريخ. هكذا يتحول الكيان إلى فكرة تبريرية للهيمنة تحت ستار الحلم.

لكن القصيدة تحذف الفلسطيني من الوطن، وتنادي “الوطن” بلغة استعطاف موقت، وكأنَّها تلتمس شرعيته الروحية، وهي قراءة عاطفية تخفي تطلعات استعمارية ناعمة، لكنها خطِرة.

أمَّا الشاعر إيتان كلينسكي، فيبدو أكثر نُبلاً، فيكتب:

أحبب لأخيك كما تحب لنفسك لأن هذه هي كل التوراة…

وأحبوا الغريب النزيل بينكم وهذه هي كل البيت على جبل الهيكل [3]

على الرغم من نبرته الأخلاقية، فإن هذا الصوت يبدو غريباً داخل المنظومة الصهيونية؛ صوتاً خافتاً يُسمَع ولا يُطاع، ولا يغيِّر من بنية الاستعمار شيئاً، بل يجمِّلها ببعض الأخلاق الطوباوية، في محاولة فاشلة لفصْل الجريمة عن منظِّريها.

ولغة القصيدة تأسيسية استيطانية بامتياز؛ توظّف الدين واللغة والرمز التاريخي في تثبيت الحلم الصهيوني، وتغني وتحرث على أنقاض الحقيقة، محاوِلة إنشاء “وطن جديد” على أنقاض وطن قائم فعلاً.

وفي مقابل هذا الخطاب الشِعري الاستعماري المتغطرس، نقرأ أصواتنا الشِعرية الفلسطينية والوفية لفكرة الأرض والانتماء؛ فيقول الشاعر أنور الخطيب في قصيدة “بلاغة الأرض” (2004):

أيها القادمون على هشاشة الوقت،

لا تعرف الأرض خطوكم،

فلا تمتطوا سحاب الصيف

أو شحوب الخريف

وارجعوا من حيث جاءت خيلكم

ورابطوا في الهجير العفيف

تطهروا، ليسمح الهواء لكم بالعبور النظيف[4]

إنها قصيدة طرْدٍ رمزية، تحاكم الغزاة باسم الأرض، لا باسم القانون الدولي؛ فالأرض لا تعترف بالطارئين، ويصبح الهواء ذاته لا يسمح بالمرور إن لم يكن العبور “نظيفاً”، أي شرعياً.

ويكتب المتوكل طه:

رابطتُ في أقصى البهاءِ ورايتي   لوّاحةٌ في خافقاتِ لوائي

 

وزها دمي في الأرضِ يوم توزَّعتْ   كِسَفاً على مَن يستحلُّ دمائي[5]

وهنا تتجسد الثورة في رمزية الصمود الراسخ في بهاء الأرض، وتصبح الدماء الموزعة على السهل والتاريخ رمزاً لتجذُّر الهوية الوطنية، وشهادةً حيَّة ضد نفي الوجود.

ويقول عز الدين المناصرة:

كنَّا نجرجرُ خطونا… كانوا يجرُّونَ النساءْ…

الأرضُ تندههمْ كفرقعةِ الرصاص

كنّا نعودُ مع الصباحِ المُرّ أطفالاً أصابهُمُ النعاس

وتكسّرتْ نظراتهمْ، حتى إذا

ذكروكِ يا أرضَ الغِراسْ

حتى إذا ذكروكِ… حَنُّوا للقصاصْ[6]

هذه القصيدة تُبنى على تقابُل حاد بين الفعل الفلسطيني المنكسر والفعل الاستعماري الوحشي، لكنها لا تنتهي بالبكاء، إنما بالحنين إلى القصاص، وتُؤسس لحقٍّ شعري وسياسي في المقاومة.

نحن إذن أمام ثنائية شِعرية: الأولى استيطانية تزعم “الخلق من العدم”، والثانية تحفر في التاريخ والذاكرة. لذلك، فإن من أهم وظائف الثورة الثقافية الفلسطينية تحرير الوعي من هيمنة اللغة المستورَدة أو الهجينة، سواء أكانت دينية أم سياسية، وتحقيق انعتاق كامل للثقافة الوطنية من التبعية. فالثورة – من هذا المنظور – هي مشروع تحرُّر شامل يبدأ في القصيدة وينتهي في مؤسسات التعليم والوعي الجمعي. لذلك، علينا إعادة النظر في مكونات خطابنا الثقافي والإعلامي، ليصبح أكثر تركيزاً على هدف واحد لا يقبل التجزئة؛ فلسطين.

والثورة أيضاً نداء صارخ لصوغ وعي فلسطيني أصيل، يرفض الاستعارة ويُعيد إلى الهوية معناها الأعمق، بوصفها ممارسة يومية، وتَمثُّلٌ حيٌّ للانتماء والمقاومة والإبداع في آنٍ معاً.

هويتي هي هذه الأرض، كلُّها، وهي عريقة بعمْق الانتماء، ومحفورة على كل حجر وجذر زيتون. إنها عهد الدم والوفاء. والهوية هي الأرض، والأرض هي نحن، بكل بساطة وبلا حاجة إلى اجترار البلاغة. ومن هذا الانتماء العميق تنبثق أحلامنا التي ستظل تواجه كل محاولات التهجير والتشتيت، حتى نستعيد الوطن الذي لا يعرف الخيام ولا الشتات.

أيها الشعراء، إنكم تواجهون اليوم تحدياً كبيراً؛ لستم في صدد تكرار الأسطورة، إنما أنتم في موقع صانع الحقيقة، فشعراؤنا يجب ألاَّ يكونوا ناقلين لصور البطولة الزائفة، إنما عليهم أن يعكسوا الإنسانية التي يختبرها الشعب الفلسطيني في شتى أوجه حياته. عليكم أن تكتبوا عن الوجع كما هو، لا أن تزينوه بتلك القصائد التي تتغنى بموت لا يُسائل العيش، ومأساة لا تطرح أسئلة عن غدٍ. إن الشجاعة الحقيقية هي في إظهار الضعف والضعفاء، وإبراز الإنسان الفلسطيني كما هو في لحظات الألم والفرح على حد سواء، بعيداً عن التورُط في الرمزية المفرطة.

فالثقافة الثورية، في معناها الأصدق، تكشف الجوهر وتُعلن الحقيقة… ونحن، في مواجهة هذا المشروع الاستعماري المتغطرس، لا نملك ترف المواربة أو التغني المجازي، إنما نملك القصيدة الصريحة، والفعل الحر، والانتماء المتجذر في الأرض والمصير. هذا هو التحدي، وهذه هي مهمة الجيل الجديد من المثقَفين والشعراء الفلسطينيين؛ أن يكونوا صوت الحقيقة لا صدى البلاغة، وأن يحوّلوا الثقافة إلى حالة نضالية واعية وحية ومتجددة.

[1] جمانة أبو عقل، “النوازع النفسية في الشعر العبري المترجم – نماذج مختارة” رسالة ماجستير بإشراف د. عدوان عدوان (نابلس: جامعة النجاح الوطنية – نابلس، 2023).

[2] المصدر نفسه.

[3] المصدر نفسه.

[4] أنور الخطيب، “الأرض لا تستحي أن تقول لا – بلاغة الأرض” (شِعْر)، “دنيا الوطن”، 14/8/2004.

[5] المتوكل طه، “أبجدية الأرض” (شِعْر)، “الديوان”.

[6] عز الدين المناصرة، “عنوان الأرض تندهنا” (شِعْر)، “دنيا الوطن”، 5/4/2018.

عن المؤلف:

جواد العقاد: شاعر وكاتب وباحث فلسطيني يقيم بغزة.

https://www.palestine-studies.org/ar/node/1657745

 

اترك تعليقاً