لكم شِعركم ولنا شِعرنا
بقلم: ياسر سعيد دحي*
الشعر يستظلُّ بنجمة/ يمشي على شعاع
الزمان قواربٌ لــــــه/ والمكــــان شـــــــــــــــــراع
الشعر يمشي على شعاع
-1-
الشعرُ حضور “الغيب” و طاقة المجهول وتكشّفه في كل شيء. إنه حاسة ضوء في الكلمات. جرس يرن في جسد اللغة. إنه ما يضيؤنا وشمعتنا التي نستظل بها. والشعر ما يوحّدنا جماليا وفنيا، وجوديا وكونيا، ما يوحدنا إبداعا وابتكارا. إنه احتفال واحتفاء بنا وببقية الأشياء والموجودات، و ما يجعل منا “نَفَسٌ” إنساني وروحي واحد، “نَفَس كوني”. إنه كالموسيقى وكالألوان وحركات الرقص في كل جسد. الشعر وراء كل شيء و خلف كل شيء. مرئيٌّ ولامرئي، زمنيٌّ ولا زمني، عابرٌ ومقيم. حين تراه، يختفي و يتملص. إنه بعدد أنفاس الخَلق، بعدد أنفاس الشعراء وعدد “حبّات” الشعر الذي كُتب منذ الأزل. ستجده حيث الكل لا الجزء، هذه هي خصوصيته وخاصيته. الشعر سيدٌ، واللغةُ تخرج من نبعه وتفيض. وحوافّه لا حصر لها، إنها خارج حدود الكلمات وخارج حدود المنطوق. فاللغة تظلُّ حافة في الشعر ليس إلاّ.
-2-
الشعرُ: حركة في الضوء. القصيدة: حركة في الشكل.
الضوء: حركة في الأزل. الشكل: حركة في الزمن.
الشعرُ؟ بسرعة الضوء. القصيدة؟ بسرعة الكتابة.
لذلك تأتي القصيدة متأخرة دائما عن الشعر، ويأتي كل شيء متأخر عنه. إذ كيف وأنّى للقصيدة أن تكون لها القدرة على اللحاق بالشعر؟ كيف للقصيدة أن تكون لها القدرة على اللحاق بالضوء؟.
-3-
الشعر يقترب أكثر حين لا يكون في الكتابة:
نعم إنه يتكشّف من خلالها كـ “جسر” لكن الجسر فعل انفصال أيضا لا فعل اتصال.
الجسر كتابة
والكتابة جسر.
والجسر آخر ألعاب الكتابة، آخر ألعاب الانفصال.
-4-
الشعرُ فجوة في اللغات، فجوة في الكلمات:
ستراه إذا رأيت الفجوة بين الحرف والحرف، بين الكلمة والكلمة. الشعرُ فجوة إذا رأيتها ستضيء، وإن لم ترهَ ستجلب ذاك الاعتام الذي تحدثه الكلمات، ذلك الضلال وذلك القفص وتلك الأنقاض التي يجلبها ذلك الكائن المقيم في الكلمة وليس مقيما في أعضاء الأشياء، و أعضاء الموجودات، ليس مقيما في أعضاء “الشيء في ذاته”.
الشعرُ فجوة في اللغات، في الكلمات، إذا رأيتها سيتلاشى كل شيء إلا الجمال، وحينها ستصدح موسيقى وغناء، ولأول مرة سترى المضيء في كل شيء. فكل شيء هو ضوء بذاته لمن “نسي الكلمات”، لمن لم يعد مقيما في “عتمة الكلام” وعتمة المعنى في اللغات.
-5-
الشعرُ معراجٌ وسفر في المادة، معراج في الغيب. سفر وإسراء إلى حيث المجهول. سفر ليس كحالة “اغتراب” أو “غيبوبة” بل سفر التجذر والإلتحام بالأشياء والموجودات. سفر “حار” و”ساخن” في المادة لحظة أن تشف، فترى الكلي من خلالها، ولحظة أن “تجف” كل تلك البرك القادمة من “شِباك ” المعتقدات والأوهام وما هو غير حقيقي ومزيف.
قال:
إن الغيب كل الغيب في المادة، إن المعراج كل المعراج في الموجودات وفي الأشياء في ذاتها. لا مجهول إلا المادة. علينا فقط أن نتأمل “الشيء في ذاته”، المادة في ذاتها، وسيتكشّف الغيب لنا من تلقاء نفسه، وسيتدفق المجهول، وسيتدفق ذلك الأبدي والأزلي في صهوة وجسد “الشيء في ذاته”.
إن الغيب كل الغيب في المادة، إن المجهول كل المجهول في الشيء في ذاته ولكن دون كلمات. الشعرُ “فجوة” في الشيء. قفزة من المجهول إلى المجهول. من العتمة إلى العتمة كيما يحدث الضوء. رعشة في تناسل الكلمات و تناسل اللغات هو الشعر.
-6-
لا تاريخ للشعر، فالتاريخ للزائل، لما يفنى، والشعر هو هو منذ الأزل، كالجمال وكالضوء والحجر. الضوء هو الضوء، الجمال هو الجمال، الوردة هي الوردة، الفراشة هي الفراشة، والشعر هو الشعر. الشعر جماليا وفنيا نهاية كل ما هو تاريخي وزمني. نهاية كل ما هو مؤقت وعابر.
إنما التاريخ كل التاريخ يكون في الكتابة الشعرية لا الشعر، وكيف تجسّدت هذه الكتابة في تحولات القصيدة وتقلبات أشكالها في “جمرة الشعر”. الشعر متعالي على الزمن ومتعالي على التاريخ، لذلك لا يمكن الحديث عن لحظة كان فيه الشعر قليلا أو طفوليا أو أقل جمالا أو فنا. فلا ماضي ولا تاريخ للشعر إلا في كتابته وطرائقها وفي قصائده وتحولات أشكالها عبر التاريخ.
يترك الشعر أثراً لا إرثاً، لذا عندما يتم الحديث عن التراث الشعري فإنما يقصدون “تراث” الشكل الشعري، أما الشعر في ذاته فلا تاريخ ولا تراث له. لا ماضي للشعر إلا في طرائق كتابته. فصمود الشكل عبر “زمان ما” لا يجعل منه “أصلا” بل يعني صمود إمكاناته في العملية الإبداعية الشعرية، وقدرته على خلق الجديد وابتكاره دوما، إذ أن الشكل دائما وأبدا مصيره أن يكون في ما يتمظهر للعيان لا في الشيء في ذاته، في الزائل ولا شأن له بالجذر، بالدائم والأزلي. ولكن هذا لا يعني عدم الأخذ بعين الاعتبار أن الشكل مدمر ومزلزل أيضا. فهو يطل برأسه في لحظات التحول والتغيير وحركة التمرد كما رأيناها في شكل قصيدة النثر أو التفعيلة على سبيل المثال. ولكن ومع ذلك يظل الشكل تاريخيا دائما، بالرغم من تعدديته وتنوعه وثوريته، وتمظهر التحول من خلاله. وإذاً لا شكل للشعر، القصيدة من لها ذلك، أما الشعر لا حد له ولا حدود ولا يمكن وزنه أو قياسه. الشكل متعدد، متنوع ولكنه يبقى في التاريخ. ويحكمه الزمن.
-7-
الشعر يأتي من المجهول ومن وراء كل ما هو معلوم حيث لا فخاخ ولا شباك ولا مصائد مسبقة. إنه غربال لا شبكة. عابر لحدود القصيدة التي تأخذ من الكلام واللغة أداة لها. وكل كلام وكل لغة حدٌّ وقيدٌ وشرط.
-8-
الشعر ليس “أنا جمعية”، “الأنا الجمعية” هي اشتباك، واضطراب ونزاع. وعندما يحدث التحرر التام والكلي من هذه “الأنا”، التحرر الخالي من أي معرفة مسبقة، من أي ذاكرة ومن أي “تراكم نفسي”، تحرر عفوي وتلقائي، جمالي وفني، يسيل ويتدفق من جسد الأشياء، من ينابيعها، دون محتوى، يحدث الشعر.
-9-
الشعرُ
أن “تفتح هوة” في الكلام،
هوة هاوية.
والشعر أن تهوي باللغة من أعلى القمة إلى قاع الجحيم
كي ترى النسر.
-10-
الشعر فن الانزلاق في غصن شجرة:
فن “الإنزلاق” في حبة رمل وفي موجة، وهو أيضا فن أن تتعثر بجرادة أو فراشة، أو بطفل. إنه فن السقوط في عين قط، و فن التدحرج من أعلى قمة حتى آخر الريش. فن الانزلاق والتدحرج في الأبدي والأزلي. وفن الإنزلاق بالسؤال وتدحرجه باتجاه الجديد والمبتكر وما لم يكتشف بعد.
الشعر، لحظة صفاء في الوعي هكذا أمارسه روحيا، كحالة اختبار في السلوك والممارسة على مستوى الحياة. وهكذا أكابده في الكلمات. إنه حركة في الوعي. هو كالفن دائما تجده في الجديد في “المبتكر” وفي ما لم ينجز بعد. الشعر اتساع مساحة اللغة وقدرتها على ابتكار مالم يجرَّب.
قال:
كي ترى الشعر عليك أن تكون كليا أما إذا كنت “منقسما” “ثنائيا” مشروطا ومقيدا ومجزءا فلا يمكن أن تراه. الشعر رؤية لمن رأى والشعر وظيفة لمن ظل أعمى. الشعر حالة تسعى “لاشتراك” والتحام كوني مع الوجود والموجودات. إنه حالة وعي وإدراك وانتباه كلي وليس مجرد “حالة عاطفية”. فالشعر حين يكون “حالة عاطفية” يصبح اضطرابا ونزاعا وصراعا، عنفا وتقسيما وتمييزا. وهذا بعيد كل البعد عن الشعر كــحالة وعي وصفاء كلي. الشعر حالة روحية، أشبه بالصلاة، بالابتهال، بالتأمل، بالمناجاة، إنه حالة دخولك للمعبد وخروجك منه مغتسلا بأعمدته. وهو أشبه بتذوق المعنى، تذوق الوجود بكل الحواس و بكل الأعضاء بما فيها اللسان. أنه حلول مع الحب والجمال والموسيقى. و لا حد ولا حدود ولا فواصل.
ثم قال:
الشعر لا يتأصل إلا في الخفي والسري، إلا في الغامض والمجهول واللامرئي. الشعرُ طريدة في الأزل والشعر “صعقة اللاشيء” في الكلمات. هذا هو الشعر الحي، شعر يحررك و يجعل من الجمال المساحة الأكثر اتساعا فيك. شعر يحتفل، يغنّي ويرقص. شعر يحيي الموتى. إنه حالة إزهار وازدهار في الوعي والرؤية واستئناف عمل الإله في هذه الأرض، عنيتُ الحب والمحبة والسلام، الجمال والحفل والابتهاج، الخلق والإبداع والابتكار.
الشعر الحي كالعطر وانتشار شذا الوردة، كحركة في الفراشة لاستئناف طيرانها، إنه حركة في الريش لاستئناف الطيران. حركة في الحناجر لاستئناف اللحن واستئناف الغناء. إنه حركة اسئناف للأبدي والأزلي.
قلت:
شعر يُريك اشعاعا ما، يسمعك صوت تفجر في الكلمات غير معهود، وتكسر في “ضلوعها”، أعمدتها تخرج وتتهدم باتجاه أعمدة أخرى جديدة وتتوالد، شعر تخرج منه بحواس مختلفة، لم تكن كما كنتَ ولم تكن كما كانت من بعده، شعر هو كل الزلزلة وكل الرعشة وكل الدهشة، شعر ينفض الغبار عن ما تراكم وشوش الكثير من “الرؤية” الواعية والمدركة والحاضرة حضورا كاملا ومتكاملا على المستوى الكوني. شعر هو حضور الكل في الجزء وحضور الجزء في الكل، حضور الموسيقى والغناء في لحن واحد، وحضور كل الرقص في رقصة واحدة. و حضور رقصة الماء في قطرة واحدة. هذه هي رقصة الشعر حيث الكل وحيث لا فرق بين راقص ورقصة وساحة رقص. الراقص هو ذات الرقصة، والرقصة هي ذاتها ساحة الرقص. وهذه هي رقصة الشعر.
قال:
الشعر صعقة في المجهول، في الخفي،
“صعقة فراغية” في جسد اللغة.
قلت:
تراه الشعر وراء ابتكار اللغة؟ وراء ابتكار الكلمات والألفاظ والمفردات؟ مسمّي الأشياء ومبتكرها؟
قال:
وحدها النيران في ملحمة مع الرماد،
وحـــــده الرمـــاد في ملحمـة مع النيران،
يشتعــلان وهجــــاً، ولا حديث آخــــــــر.
ثم قال:
الشعر الــــذي ابتكرتــــــــه الميـــــــــــــــــــاه، يهيــــــئ المــــــــــــــــوج رسمـــــــــــــا لـــــــــــــــه. والشعر الذي ابتكرتــــــــــه الغصــون، يـــــــــهيئ الفراشــــــات سكنــــا لـــــه.
والشعر الذي ابتكرتـــــــــه الريـــــــــــــــــــــاح، يــهيــــئ اللقــــــــــــــــــــــاح أثــــــــــــــــــرا لــــــــــــــه. والشعر الذي ابتكرتـــــــــه الشفــــــــــــــاه، يهيـــــــئ الابتسامات قُبــلا لـــــــــــه.
والشعر الذي ابتكرتـــــــه الحيـــــــــــــــــــاة، يهيــــــئ الخلــــــــــقَ موكبــــــــــــــا لــــــــــــــــه. والشعر الذي ابتكرتــــــه النجـــــــــــــــوم، يهـــــــيء الشعـــــــــــــــاع أثــــــــــــــرا لــــــــــــــــــه.
قلت له:
إني أتقشر حين أكتب الشعر.
قال:
هذا أمر طبيعي. فالشعر عمل من أعمال التقشير، عمل من أعمال “تقشير” الشاعر. ولا أدري إن كانت هذه روعة أو مأساة أو ملهاة.
أنا كذلك “أتقشر” حين أكتب الشعر.
* شاعر و كاتب ورئيس مجلة حوريت الثقافية. و النص من العدد الأول للمجلة، ضمن كلمة رئيس تحريرها.


كل الشكر والتقدير للشاعر والروائي الكبير العزيز والحبيب أنور الخطيب على نشر مقالتي… في هذا الملتقى و ملتقانا… والذي يبدو كاستراحة و واحة وراحة لمنتظر جميل…
كل الحب والتقدير،،،
تحياتي
ياسر سعيد دحي
الشاعر المميز والصديق الغالي أستاذ ياسر سعيد دحي، هذا موقعك ومساحتك التي تستريح فيها،
والموقع يتشرف بوجود اسمك العزيز والغالي على صفحاته، أهلا بك صديقاً غالياً
أنور