قراءة وجدانية في ديوان همس الرحيل للدكتورة والشاعرة غنوة الدقدوقي.
تبدع الدكتورة غنوة في الصور البلاغية، حيث تجد المجاز موجزًا بين السطور، والموسيقى انسيابيةً هادئة
بقلم: عصام الخطيب

همس الرحيل هو الإصدار الشعري السادس في إطار إصداراتها التي بلغت عشرة مؤلفات ما بين شعر ونصوص وموضوعات طبية وصحية.
في همس الرحيل سأقدّم قراءة وجدانية لهذا الديوان الشعري القيّم، والذي يحتوي على مجموعة قصائد وجدانية بأسلوب حداثي، وبطابع كلاسيكي ورومانسي في آن، وعبر الصور البلاغية وسيميائيات مكثّفة، حيث يتمحور الكتاب بمجمله حول فكرة الغياب والفقد والحزن المُوشّى بالأمل، فهو كسبيل غيمة تولد الفكرة، ثم يتكثّف المعنى ويتقاطر لينساب رقيقًا شفيفًا في لُجّة القلب، ويغدو قبسًا من همسٍ وأنسٍ يفيض شوقًا ليطفو الحنين. والهمس دفءُ أنفاسٍ راعَها سفرُ الرحيل، وأعياه وجع الغياب، وأدماه اليباب. كأنّه ولوج السديم في الأديم، وانكسار الضوء في رحم الليل. هي القصائدُ المُسجاة، والموشّاة بكحل عاشقة على أهداب الفجيعة. بعضُها بيروت، وجلُّها وطنٌ ليست حجارةً ولا بيوتًا؛ هي جداريةٌ معلّقة في الروح، ونفثٌ من تاج العصور، وفيضُ بحرها إلى نحرها، يسوّرها بمدّه العاتي، وكلما قام الركام يعزف المكان ويُحيلها قيثارةَ شعر..
ونبضُ أنفاسٍ تئنّ ولا تموت… لأنها بيروت.
والهمس سرُّ أقداسٍ يسري في الشوارع العتيقة بحلمٍ يخنقه الألم، وهي تُسبى مرتين بحرقة — كما تقول الشاعرة — مرة من بني رحمي ومراتٍ من الأتراب، كأن ترابها ملح، ومحرابها مقصيٌّ بين هَسِّ غدرٍ ووخزِ حراب..

وفي خاصرة الوطن تحضر خاطرةُ الشعر، حيث يبرق الجرح ويحاذر الموتَ المستباح… وكلما لاح سيفٌ وُثنيّ أباح في المقلتين نزفًا واستراح. وكلما انزاح غيمٌ مُثقل جبَلَ دمه بالحبق ونزف الإقاح.
وهنا تبدع الدكتورة غنوة في الصور البلاغية، والقراءة في النصوص حيث تجد المجاز موجزًا بين السطور، والموسيقى انسيابيةً هادئة، والصور الشعرية متواترة تجانب التراتبية في الكمّ والنمطية في المضمون. وبين أن تكون الصور السيميائية متزنة، جاءت متوازنة في السياق الشعري ومرنة الإيقاع.
وفي الظلال تجد الشاعرة، بعمق إحساسها، تجمع بين الصوفية والوجدانية، وهذا يؤشر إلى فلسفة وجودية إطارها المحسوس وجوهرها المدلول.
وأقتبس للشاعرة:
(طعمُ الغياب مُرٌّ لو كان مُرُّه بلسم…
وطعمُ اليُتم أقسى، مذاقُه علقم)
وهنا قمة الإبداع، ولعمري إن نصوص الدكتورة غنوة أغنى من أن تُختزل بقراءة!
ولأن الشاعرة وُلدت في بلدة برجا – ساحل الشوف العريقة بتاريخها النضالي والعروبي، ونشأت في بيتٍ وأسرةٍ مناضلة رافقت الثورة ضد الظلم وكل أشكال الاحتلال… تقول:
لا تَهِبِي شراراتِ حقدٍ أو تعب، فالطغاة أوقدوا فيك نارًا فاستعر غضبًا،
لا يُوقدُ الثورةَ إلا اللهب…
وفي وجه الطغاة صرخت الشاعرة:
يا ظالمين، لا سمعًا ولا طاعة،
فالعين ما عادت تذرف الدمع،
والكل آثر وداعه،
ومن جاراك بالأمس أسقط عن وجهه قناعه!
وهنا تتجلّى الحماسة لدى شاعرتنا، وهي تحفّز الجيل وتقدّم مأثرة في عشق الأوطان والذود عنها، ووحدة شعوبها.
وتقول:
طبولُ الحرب نقرعها،
وطيورُ الحب نقمعها
في شتات الجموع.
وتضيف:
في جمهوريات وطني شعوبٌ يلمّها الجوع، ويجمعها الساسة، ويفتتها البطرُ الأعمى لتقتات على الفتات.
وهنا تُغمز الشاعرة إلى الصراع الطبقي والطائفي المقيت الذي يؤجّج الانقسام والتشرذم، وهي التي تحرص على وحدة الشعب والمجتمع حضاريًا وإنسانيًا ووطنيا.
وفي المنحى الوجداني الأعمق من روح الكتاب يبقى جوهر الأم وطيفها وعظمتها حاضرًا. تمثل للشاعرة الرمزيةَ الأقدس، وتختزل الكون الأجمل في كفّيها.
هنا يكون الطيف حاضرًا في المكان والزمان:
“صباح الخير يا أمي”…
نداؤها الأبدي والوجودي ونبضُ حياتها.
هي الخاطرة الأجمل، والحاضرة بصوتها وهمسها وثوبها وروحها، وهي الحاضنة الأسمى. بكفيها تمسد الجبين؛ بجمالها وحنانها وشوقها المزمن، والمغيّبة الوحيدة الناجية من التأويل. فحضور الأم للشاعرة المبدعة للدكتورة غنوة الدقدوقي تمثل أبجدية نورانية وهنا مكمن الأيثار وعظمة الوفاء.. وهنا أقتبس من الروائي والأديب أنور الخطيب:
“كلُّ القصائد تُكتب بالمداد، إلا قصيدة الأم… تُخطّ بحبر الدم.”
وفي الظل ينطق الصخر الذي وطأته ليرمم ذاته من كسر السنين. وفي الظلال شاعرةٌ تجبر أضلعها بلمسة. وفي الدلالة يحضر الغياب، وفي البلاغة تُطرَق أبوابُ السراب! وفقدُ الأم أسًى يراودها في جذرها الروحي والمعنوي، وأورثها هذا الحزنَ الدائم، وهو ما يحفزها على أن تكتب وتُبدع.
وهي الطبيبة البارعة في الحقل الطبي، والناشطة في الفعاليات الطبية الاجتماعية…لكن مع هذا المخزون العميق من الشوق تجدها تتعثر أمام أول نسمة تحمل عبق الأم، وكل فقد، وكل نجم في السماء يتبخر، وكل صوت وضوء يخبو… حتى الصدى يتبعثر، كونها حلمها الأزلي والعمر الشقي، حتى الدمع في مآقي العيون يتحجّر!
وفي غمار الحياة يناور الوقت على ديدن الفصول، ويداوِر في مواسم الفرح الساكن إلا من حلم، وأسفار قلق، وعزف أوتار نزق الأشواق في الرواق.
في هنيهات الارتباك يأتي الشعر يلثم ما تناثر من ورق؛ يلمّه كأحجية، يعيد تكوينه، يلوّنه كأنه ضوء يلوذ في الغسق، يكتب حرْقته بلون الشفق!
صوفيةٌ آسرة ترتّل الصلوات القانتات، وضوؤهنّ فجر الأمنيات، وترُ الأمسيات تتشح بالحبق، ريحانةُ المَهَج الغاربات، وطقسُها الألق…
وهمسُ الرحيل سرٌّ يشي بظلٍّ ثقيل، وقلبٍ يطوي الرحيل لا السبيل. هي غيمةٌ ثكلى، خريفُها عرسُ الشجر، ولهاثُ الريح، وانكشاف المطر. روحُها بين رفيفٍ وحفيفٍ تحفّ الأثر؛ كليلةٌ شاحبة، واهنةٌ بين ماء وسَقَر. ما أقسى الخريف لولا الرغيف المدور كأنه القمر، وزيتونة بطعم الأرض تربتها تظلّل الرصيف الموحل وتترك الأثر، ويهمس الشتاء رتابته، ويلفّ السماء، ودويّ الغياب والأسماء، عزفُ الرياح والأنواء، وجمرُ المسافات. قبل الرحيل رمادُه كحلُ المراثي، وهمسُه ليلٌ طويل…
وفي قمة التجلي تبدع الشاعرة غنوة بأجمل الصور:
فلذاك الحُضن تشتاق، والدمع مدرار، والحبر مدماك.
وإن غابوا عني قسرًا ففي مسمعي كأنهم ما رحلوا وما غابوا؛
كأن صوتهم محبرة الأقلام تنساب،
والأذن باتت مطرقةً تقبع خلف الأبواب.
فما آل دمي دونهم نبضًا، ولا مال لغير القلب وجداني…
وكيف أن وقع الفراق فاق أثر الموت؟
وحين تخاطب والدها تتخصّب الفكرة: الشجرةُ، الجذورُ الأصيلة، التاريخُ، والأغصان في رمزيتها وديمومتها. ولأن الشجرة ترمز إلى الحياة والعطاء المستمر، وخلقت من أمر “كُن” فكانت حسب قول ابن عربي ترى فيه ذاك الغصن الوارف، وذاك الجذع الصلب: قلبُه وسِع الكونَ رحب، عضُدُه صخر، ومدُّه بحار، قلبه حُب، وعطفه إعصار، زندُه مرمر، وكفُّه بيدر…
وفي مقطع تقول شاعرتنا المبدعة للراحلين، وهم محور كتابتها وقصائدها في هذا الكتاب:
رحلوا دون إنذار، كأنهم حطبُ المواقد في الدار،
وأحالوا بدفئهم صقيعَ القلب نارًا…
وأختم قراءتي الوجدانية بأبهى صورة وجدانية للشاعرة غنوة الدقدوقي:
جوري يصرخ للأيام: لا تجوري
على أهداب الياسمين.
وتخبرني الجذور أن العمر أشواك ودوائر تمرّ وأفلاك ،وهي تدور بين مُرٍّ وأمَرّ.
والظل نبضُ الحقيقة، والذكرى آيةٌ عتيقة نتلوها كلما في البال مرّوا…
