الأديبة نجاة الشالوحي، تشارك في الجلسة الحواريّة، في قراءة نقديّة لرواية جميل الدويهي “هيلانة صور”،:
يطلّ علينا جميل الدويهي برائعة من روائع أدبه وعنوانها “هيلانة صور” وهي رواية تاريخيّة. ونلاحظ أنّ الرواية التاريخيّة تأخذ اهتمامًا كبيرًا وتتبوّأ مكانةً مرموقة في الأدب الدويهي. فالأحداث تتسلسل بأسلوب راقٍ ومشوّق وسلس بعيد عن التكلّف. أمّا الشخصيّات فتاريخيّة وحقيقيّة وأخرى متخيّلة، وبالإضافة إلى جماليّة السرد، فالتشويق يشدّنا ويجذبنا لمتابعة الرواية من دون توقّف.
وتعرّف الرواية التاريخيّة:” أنّها نصّ تخيّلي نُسج حول وقائع وشخصيّات تاريخيّة”. أمّا عند الأديب الدويهي فهي عمل سرديّ يهدف إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيليّة، فتتداخل شخصيّات تاريخيّة مع شخصيّات متخيّلة كما شخصيّة صوفيا المتخيّلة التي ابتكرها الدويهي وأدخلها إلى الرواية، باعتبار صوفيا إلهة الحكمة عند اليونانييّن، وكان سيمون الساحر شغوفًا بهذا الاسم، ويريد أن ترافقه امرأة تدعى صوفيا لتكمل شخصيّته الفلسفيّة، ولكن هذه الشخصيّة الأنثويّة هي ابنة المحبّة، ابنة النور، آمنت بالسيّد المسيح وبتعاليمه “أمّا أنا، فآمنت بالله… وأعتقد أنّ السحر ورثناه من الوثنيّة” (ص 10).
لم يستطع الساحر إقناع صوفيا بمرافقته، لذلك بدأ يبحث عن امرأة وكأنّها خارجة من التاريخ والأسطورة. فصوفيا وسيمون شخصيّتان متعارضتان “تعارض بين الشرّ والخير، بين الوثنيّة والإيمان بالله وحده” (ص12). وسيمون الساحر المشعوذ كان يُدهش شعب السامرة بأعماله السحريّة، ويصطاد ضحاياه من السذّج والبسطاء الذين لا يملكون ثمن رغيف وأولادهم جوعى. وبرأي الدويهي أنّ “هؤلاء جنحوا عن الطريق، واختاروا مسارًا في اليباس والعوسج” (ص11).
في أحد الأيّام وبينما سيمون الساحر يقوم بعرض شعوذاته، إذا به يرى امرأة فاتنة الجمال؛ فيتوقّف فجأة ولا يكمل عرضه؛ ويطلب من بعض تلاميذه أن يلحقوا بها ويجلبوا عنوانها؛ وهو قد وجد المرأة التي سترافقه إلى روما. فيقصد صور الفينيقيّة ويقنع هيلانة بمرافقته، فتقبل لأنّ مرافقة سيمون ستكون خلاصًا لها من جحيم الدعارة.
وكانت هيلانة – على الرغم من عملها بائعة هوى -امرأة طيّبة تزور فيلون الفقير صاحب القدم العرجاء، وتقدّم له بعض النقود. ويتساءل الدويهي: أيمكن أن تكون هيلانة شرّيرة وفاعلة خير في آن واحد؟ ثمّ يضيف: هو الصراع الأزليّ داخل الإنسان، صراع النور والظلمة، الخير والشرّ.
وتسافر هيلانة مع الساحر إلى روما، ويتقرّب سيمون من نيرون القاسي والظالم، ونيرون الشابّ المراهق يقع في أحابيل الساحر. ويؤكّد سيمون لنيرون أنّ أعماله ليست سحرًا “فهو الله المتجسّد، وقوّته ليست من هذه الأرض” (ص 82). وسيمون الساحر هو من علّم نيرون أن يتّهم المسيحيين بإحراق روما، ثمّ يأمر باضطهادهم.
وعلى الرغم من الأعمال السحريّة التي قام بها سيمون، ظلّ نيرون مشكّكًا بمقدرته؛ فطلب منه أن يطير. وهنا سينقلب السحر على الساحر، لأنّ من كانوا يساعدونه بأدوات خادعة تبهر الأبصار هم الآن في السامرة.
وفي اليوم الموعود لا يستطيع سيمون الساحر الطيران، فيسقط ميتًا ومضرّجًا بدمائه. تعود هيلانة إلى صور الفينيقية وتفتّش عن السوار الذي أهداها إيّاه سيمون الساحر؛ فتبيعه وتتبرّع بثمنه إلى ميتم للأطفال. وحين تبيع هيلانة السوار تشعر أنّها تخلّصت من قيود الإثم؛ وتحرّرت من زمن سيمون وسيطرته؛ لتدخل إلى جوهر المحبّة؛ وإلى النور.
في هذه الرواية يتعارك الشرّ والخير؛ فينهزم الشرّ لأنّ الإنسان مجبول من طين الخير، فالله نفخ من روحه وجبل إنسانًا؛ ولا بدّ من انتصار الخير.
وهل سيأتي يوم يدرك فيه الأشرار أنّ لا مفرّ لهم من العقاب، ومما جنته أيديهم؟
يقول الدويهي:” الذي يقول نصف الحقيقة يضيف قباحة على قباحته، ولا يزيد من جمال روحه” (ص 60). يحضّنا الأديب الدويهي على قول الحقيقة كاملة ومناصرتها وتأييدها، ولو اضطررنا إلى الوقوف بوجه كلّ منافق أو متواطئ. فالحقّ هو النور، ومَن يمشي في النور لن يهزم، ولو تكالب عليه كلّ أهل الأرض، فلا بدّ من انتصارالحقّ وسيطرته.
وأعمال الدويهي محمّلة بقضايا حضاريّة وإنسانيّة ووجوديّة، فرقيّ أدبه، وعطاءاته الأدبيّة الجليلة تأسرنا وتأخذنا إلى دنيا الخير والجمال اللامتناهي. وكلّ رواية أو قصّة أو كتاب فكريّ أوفلسفيّ يحمل بين سطوره درسًا أو موعظة أو رموزًا. ومن كان له أذنان فليسمع مواعظ عميد الأدب المهجري ويعمل بها؛ ويحضّ على قراءة فلسفته قبل أن يسقط الهيكل على رؤوسنا. وهل من يسمع فيقرأ ثمّ يتّعظ؟


