يقولون صلّ، أقول مذ ولدت أصلي
كلما نظرتُ عينيّ أمي
يأخذ الكون في التّجلّي
وكلّما مسّدتْ شعريَ شقّت نسمةُ نورٍ
كلَّ أسودِ فيستحيل رأسيَ والليلُ
قاعُ البئر نهاراً يحضن سهلاً بسهلي
وكلّما ابتسمت أميَ مرّ سربُ حساسين
يوزّع حُلوى الأغنيات
فيرقص ظلّ ظلي
وكلّما رفَعَتْني بكفيها الحنونتين
للمدى القدسي
رأيت الوقت الذي لم يحن بعد ُ
كأن خيولاً تنهب الأرض طولاً بعرضٍ
وإني أمتطيها كلها
وأقفز من على ظهر خيلٍ لخيلِ
واسمع فارس الروح يغنّي
ويشير نحوي بغصنٍ طويل كسجدة صوفيٍ
يقول: هذا الفتى يشبه الطير حين يصلي
(أنور الخطيب)
معجمٌ ينسابُ علوًا، الأمّ رتبتُه!!
بقلم: الدكتور عماد يونس فغالي
يبان الشاعرُ يتخطّى فعلَ الشعرِ علوًا، يستحيلُ داودًا، يلتهم قيثارتَه منشدًا مزاميرَ يصلّي، لإلهةٍ أمّه… لا سجدةً في طقسِ دين، بل عشقَ أمومةٍ اعتنقت إنسانَها إلهيّةً مستدامة!
“أقول مذ ولدت أصلّي”، يقولُ ولدتُ كائنًا مصلّيًا، هويّتي! لا بمبادرةٍ منه، تجلّياتُ أمّه “كلما نظرتُ عينيّ أمي… وكلّما مسّدتْ شعريَ شقّت نسمةُ نورٍ”… تقوده إلى حالةٍ من صلاةِ ترافقه هويّةً لا تخفى. “فارس الروح يغنّي… كسجدة صوفيٍ يقول: هذا الفتى يشبه الطير حين يصلي”.
أنور الخطيب، الشاعر العابر المعايير العباديّة، يستحيلُ “كلّما رفَعَتْني بكفيها الحنونتين للمدى القدسي”، عابدًا فعلَ إيمانٍ يغنّي، يصلّي، ويقفز ينهب الأرضَ وقتًا لم يحِن بعد..”
في هذا السياق، سجّل أنور الخطيب في معجم الأمّ اللغويّ لقصيدته ربطًا عضويًّا بمعجم الصلاة: التجلّي، المدى القدسيّ، سجدةُ صوفيّ…
نعم، استعمل الشاعر الحقلَ المعجميّ لمصطلحاتٍ في قصيدته، الخيل، الوقت، الطير… إلاّ كلّما رفعته (أمّه) بكفّيها، ارتقى المعجمُ إلى صورةٍ علويّة فعل أمومتها، فيرى (فعلٌ حسيّ) الشاعرُ الوقتَ (عنصرًا غيرَ حسّيّ)، لا قصدَ صورةٍ شعريّة لا تنقصه، لكن لاعتلاءٍ معجزيّ بفيضٍ ممّن ألهمت نصّه القصائديّ أعلاه!
في دلالةٍ عامّة، يأخذ الشاعرُ في قصيدته هذه إلى تغييرٍ في موازين القوى التفكيريّة. الأمّ، أمّه تحديدًا، تقودُ الفكرَ خارجَ القناعات، إلى وصولاتٍ ينساق إليها الشاعرُ بقبولٍ إراديّ، تصيرُ فيها وإيّاه ميناءَه الإيديولوجيّ ومرسلتَه الشاعريّة المطلقين.
هذا علوٌ أنورُ، ثمنُه تعبٌ فكريٌّ لذيذ من رتبةِ الأمّ!!


