متاهة الذات  قراءة نقدية لرواية “أخطاء وخطايا” الرواية كأداة تشريح للذات والواقع بقلم: نجاة الشالوحي

متاهة الذات قراءة نقدية لرواية “أخطاء وخطايا” الرواية كأداة تشريح للذات والواقع بقلم: نجاة الشالوحي

تأتي رواية أخطاء وخطايا للكاتبة اللبنانيّة لونا قصير الصادرة عن (دار فواصل، 2023) في لحظة يتقاطع فيها الخاصّ بالعامّ، والعاطفيّ بالوطنيّ، ومن خلال شخصية “جوانا”، تقدّم الكاتبة سردًا ينكأ الجرح اللبنانيّ المعاصر، حيث تتشابك مآسي الأفراد مع انهيارات الدولة والمجتمع. إنّها رواية عن الذات حين تُقصّ على خلفيّة وطن منكوب.

إنّ أخطاء وخطايا  ليست مجرّد رواية، بل هي سبرٌ دقيق في نسيج النفس حين تتعرّى لتواجه حقيقتها. الروائيّة  تكتب من عمق التجربة الإنسانيّة لذا تتكئ على بنية سردية وتتقدّم بتؤدة، متنقلةً بين شخصيات تبحث عن المعنى وسط الخراب. وفي هذا الحيز، تحضر مقولة سارتر الشهيرة: “الإنسان مشروع لم يكتمل بعد”، كأرضية فكريّة تُضيء مأزق الأبطال. فهم ليسوا أشرارًا بالمعنى التقليدي، بل أناس يسقطون في فخاخ الحياة ويُطوّقهم الوعي بما فعلوا.

في رواية أخطاء وخطايا، لا تُنجز الكاتبة سردًا عن الوقائع، بل تتقدّم بحذر في حقل النفس الملغوم،. لا تُقرأ الرواية كحكاية عن انزلاقات بشريّة ، بل كوقفة طويلة في الممرّات المظلمة التي نمرّ بها.  تضع شخصيّاتها تحت مجهر الذات والآخر والزمن، وكما قال جان بول سارتر: “الآخر هو الجحيم، ولكنّنا نحمله في داخلنا”. وحين تُمسك  لونا قصير بخيوط الذات، وتغزلها على نول وطن منكوب، تولد سرديّات تمشي على حدّ الألم والأسئلة.

من العائلة إلى الوطن: السرد بوصفه مرآة الوجع

تستند الرواية إلى بناء داخليّ يُراوح بين زمنين: زمن خاصّ تعيشه “جوانا” في علاقتها المتأزمة مع محيطها، وزمن عامّ تبدؤه الروائيّة بالإشارة إلى كارثة تفجير مرفأ بيروت. وبهذا التوازي، يتقدّم السرد محمّلًا بثنائيّة الجرحين: الجرح الخاصّ الذي لا يلتئم، والجرح الجماعيّ الذي يتكرّر.

فالأسرة، كما تظهر في الرواية، ليست ملاذًا بل مختبرًا للخذلان. في العلاقة بين البطلة ومحيطها ( طلاقها، الحبيب الذي اختفى فجأة، العلاقات الاجتماعيّة المزيفة…)

اللغة كأداة للبوح والاحتجاج

تتّسم لغة لونا قصير بالنعومة الظاهرة والحدّة الضمنيّة. لذلك تكتب بلغة مشبّعة بالمرارة والحنين. جملها قصيرة، مقتضبة، ولكنّها تومض من الداخل. ونلمس تأثيرًا شعريًّا في السرد، لا من حيث الزخرفة، بل من حيث الإيقاع والإيحاء. لونا قصير تريد أن تقول أبعد مما يُقال، أن تُشير إلى الغائب لا الظاهر.

بيروت كجسد مجروح

تفجير مرفأ بيروت لا يُستخدم كخلفيّة زمنيّة، بل يتداخل مع مسار الشخصيّات ليصبح جزءًا من تكوينها النفسيّ. في الرواية، ينفجرمرفأ بيروت مخلّفًا دمارًا هائلًا. والدمار الخارجيّ يُقابله تصدّع داخليّ، وكأنّ الرواية تقول إنّ الوطن المدمَّر لا يُنتج إلّا علاقات هشّة، ومواطنين خائفين، ومُعلّقين على حافة الخسارة. وإنّ الانهيار ليس وليد لحظة، بل نتيجة تراكم “الأخطاء” التي تحوّلت إلى “خطايا” متأصّلة.

الهجرة: الخروج من الجحيم… نحو ماذا؟

تتعامل الرواية مع الهجرة لا كخلاص، بل كجُرح آخر. الشخصيّات التي “تنجو” بالسفر، لا تنجو فعليًا بل تبدأ مغامرة جديدة من القلق والحنين والتشظي. (هجرة البطلة جوانا للعمل، وكذلك ابنها وابنتيها وحبيبها)

من الخطأ إلى الخطيئة: مساءلة القيم والمعايير

اختيار العنوان “أخطاء وخطايا” يشي بنية واضحة في مساءلة المفاهيم الأخلاقيّة السائدة. الرواية لا تبرّئ أحدًا، ولكنّها أيضًا لا تُدين بسهولة. بل تطرح سؤالًا مفصليًا: هل ما نعتبره خطأً فرديًّا هو في حقيقته نتاج نظام اجتماعيّ مختلّ؟ وهل الخطيئة فعل فرديّ أم مسؤوليّة جماعيّة صامتة؟ من خلال هذه الثنائيّات، تجرّب الكاتبة فكّ شيفرات الألم، وتحويل الرواية إلى مرآة لوجع مشترك.

وعلى الرغم من كلّ هذا الثقل، لا تسقط الرواية في العدميّة. بل تترك خيط أمل خافتًا. البطلة لا تنكسر بالكامل، والمدينة لا تموت. لونا قصير لا تقدّم خلاصًا سحريًّا، ولكنّها تتساءل ” كيف سيكتب تاريخ لبنان الجديد؟ على أمل أن يدونه المؤرخون بكلّ شقافيّة…لتتعلّم منه الأجيال المقبلة” ص199. وهذا الوعي هو ما يجعل النصّ مؤثّرًا: القدرة على قول الحقيقة من دون مراوغة.

أخطاء وخطايا ليست رواية عن فرد فقط، بل عن مجتمع يجرّ أذياله في عتمة لا تنتهي، ويحاول أن يخرج منها عبر الكتابة، والتذكّر، والاعتراف. إنها نصّ يحتفي بالهشاشة الإنسانيّة من دون أن يستسلم لها، ويمنح الكلمة دورها كقوّة بناء ومقاومة في آن.

بأسلوبها الرقيق، وعمقها النفسي، وتقاطعاتها مع الشأن العام، تكتب لونا قصير روايةً صادقة عن زمن الكسر، وتُحيل الخسارة إلى فعل تأمّل شفيف، يستحق أن يُقرأ مرارًا.

في “أخطاء وخطايا”، لا تكتب لونا قصير رواية بقدر ما تُمسك بقلمها كمن يمسح الركام عن وجه ضائع في غبار الكارثة. الرواية ليست سردًا تقليديًا، بل خفقة قلب عالق في اللحظة التي انشطر فيها المرفأ. ومع توالي الفصول، نجد أنفسنا أمام تصوير دقيق لما يمكن تسميته بـ”العيش على حدود الانهيار”.  (الدواء المفقود) لكنّها لا تسردها كوقائع صحفيّة، بل تُجسّدها في حياة بشريّة ملموسة.

أسلوب لونا قصير يمتاز بشاعرية كأنها نُحتت من قلب محروق، لكنها متماسكة ودقيقة. لا تسرف في الحزن، بل تُروّضه، تُنقّيه من الشكوى، وتُحيله إلى صوتٍ إنسانيّ خالص.

” لونا قصير تُمسك بجراحنا وتعرضها علينا لا لنعاني مجدّدًا، بل لنعي أن ما عشناه كان واقعيًا بما يكفي ليُكتب أدبًا، وأنّنا لا زلنا نستحق الحياة، على الرغم من كلّ الأخطاء، وكلّ الخطايا.

ولهذا فالرواية تفتح أفقًا نقديًا غنيًا للتأمل في النفس والمجتمع، وتستحق قراءة متأنية ونقدًا مستفيضًا لما تحمله من معانٍ إنسانيّة وأدبيّة عميقة.

 

اترك تعليقاً