(كَانًَ ضَحَّاكًا بَسَّامًا) بقلم: حورية عبيدة

في ذكرىٰ المولد النّبوي الشّريف -2-

(كَانًَ ضَحَّاكًا بَسَّامًا)
بقلم: حورية عبيدة

ببشاشةِ مُحيَّاك الشَّريف، وبنورٍ مِنْ بين ثَنايا ثَغرِكَ الباسِم يَفيض، وبانبِساطةِ أسارير وجْهٍك اللَأْلَاء كالقمرِ ليلة بَدْرِه، كنتَ أيها الَبَشيرُ الشَفِيقُ، يا أشْرحَ الناسِ صَدْرًا، وأعظمَهم قَدْرًا، وأجْلَهم رِفْعةً، وأرفعَهم شَرفًا، وأَشْرَفَهم نَسَبًا، وأبْهاهم وجهًا، وأكثرَهم تبسُّمًا.

أيها الوَدودُ الذي امتلكَ الأفئِدة والعُقول، فقَبِلوا نُصْحَك، وارتَضَوا نَهْجَك ودَعْوتَكَ؛ حين بسَطَتَ لهم وَجْهَك، وحَسُنَ خُلُقُك، كنتَ هاديًا؛ وقائدًا؛ ومُعلمًا؛ ومُربيًا، وعابِدًا خاشِعًا، وحلِيمًا حَيّيًّا، ورسولًا نبيًّا، وكنت للأكْدارِ والأنْكادِ والأحْزانِ بَلْسَمًا ناجِعًا، ودَواءً نافِعًا، وللغُمومِ والهمومِ دافِعًا ورَافِعًا.

وكيف لا تكونُ؛ يا مَنْ أُُهْدي إليه مِنْ فوقِ سَبْعِ سَماواتٍ العَطِيَّةُ الرَبانية: “فَبِما رَحْمَةٍ منَ اللهِ لِنْتَ لهُم، ولو كُنتَ فَظًّا غليظَ القلبِ لانفَضُوا مِنْ حَولِك”، فتتلقّف الهَدِّية يا حبيبي وتُتَرجِمها مِنْ فَوْرِك.. حين يُدْرِككَ “أَعْرابيٌ” جاف القَلبِ والطَبْع، فيَجْذِبك من بُرْدِكَ أيُّها الحليمُ قائلا: “يا مُحمد؛ مُرْ لي مِنْ مالِ اللهِ الذي عِنْدَك”.. فتشتَعلُ نفوسُ الصَّحابةِ غَيظًا وغَضبًا؛ منْ ذلك العُتُلِ الذي لمْ يَفقه الأدَبَ النّبويّ في التّعامل، فَيَهِمّونَ به؛ بعد أن يأخذَهم الحَنَق لأبْعد مَداه، فإذ بالبَسْمةِ النّبويةِ على وجهِكَ الشَّريف الوَضّاء تُشْرق لتُنْهيهم عمَّا انْتَووه، وتلتفت يا حبيبى للأعرابيّ؛ ضاحِكًا مُبَشّرًا آمِرًا له بِعطاءٍ جزيلٍ، فيرجِع مُنبَهِرًا بفَيضِ كَرَمِك.

كَمُلَ خُلُقُك وازدانَ جَمالُ صَفْحِك، فانْتَهَجْتَ الإغْضاءَ طَريقًا وكان دَفْعُك بالتي هِي أَحْسن؛ فغدوتَ رسولاً رؤوفًا رحيمًا، تأمر خادِمَك “أنَس بن مالِك” ليُلبِّي لك حاجةً، فيَعْرجُ في طَريقهِ على صِبْيّة يلعبونَ، ويمكثُ غير بعيد ليلْهُو معهم، حتى إذا ما طالَ انتِظارُك؛ تخرجُ يا رَقيق القلبِ تلْتَمِسه ليطمئنَ بالُك عليه أولا !!
فتراهُ يلعبُ وسْط اقرانِهِ، فلا تَلُومَنَّه ولا تُعنْفَنَّه، بل تبتسمُ له بود قائلًا: “يا أُنَيس -يُدلّل الخادم- اذْهبْ حيثُ أمَرْتُك”.. قد أَعَنْتَهُ بابتسامة، وَوَجَّهْته بهَوادَة، وأَمَرْته بِرفقٍ دون إِهانةٍ، فليس غريبًا أن يحْزَنَ “ذاك الأُنَيس” حالَ وفاتِكَ يا حبيبي، فَيبْكِيك مُنتَحِبًا مُقْسِمًا: “واللهِ لقدْ خَدَمتَه تِسْعَ سنواتٍ؛ ما قالَ لشيءٍ صَنَعْتُ لِمَ صَنعتَه، ولا لشَيءٍ ترَكْتُ هَلا تَرَكتَه”.

يا شَفِيعِي؛ يا مَنْ صَلَّتْ عليكَ المَلائِكةُ؛ كُنتَ أَطْلَقَ النَّاسِ وجْهًا، وأحْسنَهم بِشْرًا، حتى قال عنك “جَرير بن عبدِ الله البَجْلي”: “ما رأني رسولُ اللهِ إلا ضَحِكَ”، وهذا “الحارِث بن الزّبيدي” مُنتَشيًا يقول: “ما رأيتُ أحدًا أكثرَ تبَسُّمًا مِن رسولِ الله”.

يدْخل عليك رَجلٌ من جُفاةِ الأعْرابِ، فتبْتسِمُ له، وتَبُش في وجْهِهِ، ثم تُجْلسه وتُمازِحه وتَنْبَسِط إليه، فَتَعْجَب زَوجكَ عائِش وتَحَارُ، فتقولُ لها بسَماحَتكَ المَعهودة: “يا عائِشة؛ متى عَهدْتيني فَحَّاشًا ؟!”
لا والله ما عاهدناك فاحشًا ولا ًمتفحشًا يا خِيار النّاسِ ومُصْطَفاهُم؛ وأنت الذي حين تَخْلو في بيتكَ؛ تَصِفكَ أمُّ المؤمنين -عليك أفضل الصَلوات وأتم التسْليمات- بقولِها: “كان ألْيَنَ النَّاسِ، وأكرمَ النَّاسِ، وكان رَجلًا من رِجالِكم، إلَّا أَنهُ كان ضَحاَّكًا بَسَّامًا”.

تُدبِّرُ الجيوشَ -أيُّها القائِد- وتَقودُ الغَزوات، وتَحْمِلُ عِبءَ دِينٍ جديدٍ يَكيدُ له الأعداءُ مِنْ كلِ حَدْبٍ وصَوْبٍ، وتتوتر الأجْواءُ، وتَزيغُ الأبْصارُ، وتَبْلغُ القلوبُ الحَناجِر، فتَعْلو وجْنتَيك الوَضِيْئتين ابتِسامةُ الرِّضا؛ تُزِيح الهَمَّ والغَمَّ منْ صدْرِ جنودِكَ؛ مُبشْرًا إياهم بالنَّصرِ الآكِد للحَق، فَتَتلطَّف بالنفوسِ، وتُشْغِلُ الأذْهانَ بالفَوْز، كي لا يتَمَكنُ منْهم الشَيْطانُ فلا تَفْتر عزيمتُهم؛ وتَلِين هِمَّتُهم، تُعلِمُهم أنَّ مَلامِح الصَّرامَة والتقْطِيبِ والتَجَّهُمِ ليستْ دليلَ القِيادةِ الراشِدَةِ.

حين يَقع بَصَرُكَ؛ -وأنتَ في مَعْمَعَة القِتالِ- على حاضِنَتكَ “أُم أيْمَن” تَبَشَّ لها، وتبْتَسم في وجْهها؛ عِرفانًا بفضْلها عليك، وحين تمُد يدَك الشريفة؛ ويَتَعَفَّر وَجَهُك الوَضِيء -يا حبيبي- وأنت تشاركُ أصْحابَك في حَفرِ الخنْدقِ اسْتعدادًا لغزوة الأحْزابِ، فلا يَرَونَك إلا بَسَّامًا؛ وأنت تَضْرِبُ الحَجرَ بمِعْوَلِكَ؛ يسْألونًك، فتُجِيبهم مُبشِّرًا بأنَّ رَبكَ قدْ أَراكَ الأسْرَى الذِين سيُسْلِمونَ في الأَسْرِ وهُم يُساقُونَ للجَنَّة.

أيها البشير المُسَرّي؛ صَلَّىٰ ربِّي عليك وسَلَم؛ ما أَرْوَعك؛ وأنت تقْعدُ وَسْطَ أصْحابِك تُؤنِسُهم وهُم التَوّاقون لقُرْبِك، تُبَشّرُهم بطِيبِ الكَلِم: “عَجِبتُ لأمرِ المؤمِن؛ إنَّ أمْرَه كُله خَيْر، إنْ أصابَه ما يُحِب حمَدَ الله، فكانَ لهُ خَيرٌ، وإن أصابَه ما يَكْره؛ فصَبر فكانَ لهُ خَيرٌ، وليسَ كلَ أحَدٍ أمْرُه كُله خير إلا المُؤمن”.

حين يَحِلّ بِأصحابك السُّرورُ؛ تُلبِّي نِداء رَبكَ لتَطُوف بالكَعْبة، فإذْ بـ “فضالَة بن عُمَير الليثي” يقْتربُ منكَ يَودُّ قتلَك، فيُطْلِعك الله على سِرّه، وحين تَسْأله؛ يَجْبُن ويُنْكِر، فلا تَبدُرُ منك إلا ضِحكَتك الوَدُودَةَ، فتضَعُ يدكَ الشَّرِيفة على صَدْرِهِ مُربِّتًا، فيَعْجَبُ الرَّجلُ من سَماحتِكَ؛ ويُقسِمُ باللهِ أنَّك -أيَّها الحَنُون- ما رَفَعْت يَدكَ إلا وكنتَ أحَبَّ خَلْقِ اللهِ إلَيْهِ.

كُنتَ الرَّفيقَ؛ الرَّقيقَ؛ الرَّحيمَ؛ الرَّؤوفَ.. تُداوِي اللَّهْفَة، وتُؤنِس الوَحْشَة بابتسامةِ الشِّفاءِ والرِّضا، وأنتَ الذي ما مِنْ فِتْنة ولا مُصِيبة إلا ونَزَلتْ بكَ، فكنتَ المُبْتلَى باليُتمِ؛ وفَقْدِ الزَّوْجِ والوَلد؛ والمُتَّهم في عِرْضِ زوجِهِ الطّاهِرة المُطَهَّرة؛ والمَوْسوم بالجُنون منْ قِبَل مَرْضَى الزَّعامة والعَظَمة، فيُخرِجُونك من دِيارك، تكْذيبًا بدعوتك، فما تَكَدَّرَت حَياتُك، بل رَضِيتَ بقَضاءِ اللهٍ، ولم تُرِهِم إلَّا التَسامُح والرَّحْمة وجَمال صِلَة الرَّحِمِ والنَّسبِ والمُصاهَرةِ، وما فارَقَت البَشاشةُ مُحيّاكَ -يا حبيبي- حتىٰ لَكأنِّي أراكَ وأنْت تَسْتقبلُ “خالدَ بِن الوَليد” بعدَ أنْ قتلَ خِيرَة المسلمين في جاهِليته؛ فيأتِيك شاهِرًا إسْلامَه، فتَبْتسمُ لهُ؛ وتُعِزَّه بِكلامٍ يليقُ بكونهِ قائدًا حرْبيًّا نابِهًا: “إنَّ مِثْلَ خالد لا يَجْهَلُ الإسلام”.

تستقبلُ النِّعَمَ والنِّقمَ أيَّها الرَّضِي المُرتَضَى؛ بانشِراحةِ صَدرٍ، فكانت بُشْراكَ لعائِشة بالبَراءَةِ الإلَهِية مِنْ حديثِ الإِفْك، فتقولُ حِبِكَ عائِش -كما يطِيبُ لك أنْ تُدَلِلها-: “فواللهِ الذي أكرَمَه وأنزل عليه الكِتابَ؛ مازالَ يضْحكُ حتى إنِّي لأنْظُر إلى نَواجِذه سُرورًا”.

ثم تفرحُ لـ “جابِر بِنْ عبْدِ اللهٍ” وهو يُبشِّرك بسَدادِ دَيْنِ والده، فتُهنئه بِبِرِهِ، فتخرجُ للطَّريق؛ لتجدَ “أبا هُرَيرة” يقْتَعده مُتعَمّدًا لتطيبَ نفسُه برُؤياك، وتَقِرَ عَيناه، فتَهْدِيه أرَق الوَصَايا؛ رِضًا بما صَنَع: “أطِبْ الكلامَ، وأطْعِمْ الطَّعامَ، وصَلّ بالليلِ والنَّاس نِيام، تدخلُ الجنَّة بِسَلامٍ”، ثمَّ تنْطلقُ تُهدي أصْحابك بِشارَةً أخْرَى، فتسألهم: “منْ منكم صلىٓ الصلوات في جماعة ؟ ومن زارَ اليَوم مَريضًا ؟ ومن تصدّقَ بصدقةٍ ؟ ومن شَهِد جنازةً ؟”، فيرفع الصِّدِيق يَده، فتضْحك يا شفيعي مُوَجِهًا: “ما اجتمعنَ في رجلٍ إلا دَخل الجنَّة”.

حتى الغِلْمان والصِّبْية جَعلتَ لهُم خَلاقًا وافِرًا من سماحَتك وبسْماتِك، فتداعِبُ الصِّغارَ، حتى إذا ما اعْتلَىٰ “الحُسينُ” ظَهْركَ الشَّريف وأنْت تُصلي، ظَللت تُطِيلُ السّجودَ -دونَما غَضبٍ- حتى يَرضَىٰ الحفيدُ ويَكْتفي، وبعد أن تُنهي صلاتَك تُضاحِكه قائلًا: “نِعْمَ الفارِسُ”.

وحين تخرجُ تُربِّت على رَأسِ صَبيٍّ يبْكي لأنَّ عُصْفوره طارَ مُحلِّقًا !!

يَلقاكَ “طلحة بن الزُّبير”؛ لِيُقَبِّل قدمَيك الشّريقة؛ مُتمنيًا عليك أنْ تأمُره بشيءٍ حتىٰ ولو أنْ يقتلَ والِده، فتضْحكُ يا حبيبي مُرشِدًا: “إنّي لم أُبْعث بقطيعةِ رحمٍ”.. فيبقىٰ “طلحةُ” على عَهْدِ الحُبِ الذي بينكما، حتى إذا ما أَتاهُ المَوت؛ خَشِى عليك؛ فيأمُر أهلَه ألا يُبلِغونَك، وحين تَعْلم يا نبي الرَّحمة؛ تذهب لِقبرِهِ رافعًا يَديك داعِيًا: “اللهم أَلْقِ طَلحةَ وأنت تَضْحكُ له، وهو يضْحكُ إليك”.

أيها الهادِي الرَّحيم؛ رغْمَ الأعْبَاء والمَهامِ الجِسامِ؛ والمِحَنِ والمَصائِبِ؛ وكَثْرةِ العِبادة وطُولِ السّجودِ والبُكاءِ؛ والخُشوعِ والقيامِ حتى تَتَورَّم قَدمَاك الشَّريفتَانِ، إلا أنَّك كُنتَ بَسَّامًا في هَيْبةٍ، تُمازِحُ بالحَق دونَ كَذِب، تضْحكُ دون قهقةٍ تُخِلُ بوَقارِك وسَمْتِك، دائِمَ البِشْر مُشرِقًا؛ طَلِيق الوَجْه مُتَهَلّلًا.

كنت مُلاطِفًا لأزواجِكَ، فتَصْطحِبهنَّ في أسْفارِكَ، وتُسابِقهنَّ إدْخالًا للسُرورِ على قُلوبِهِن، وتَسْرِيةً لَهنَّ، وساعةَ تكونُ في بيتِ بعْضِ نسائِكَ؛ فتُرسِل إحْدى “أمَّهاتِ المؤمنين” صَفْحةَ طَعامٍ تُحِبه، فإذا بالتي أنتَ في بَيْتها تَغارُ؛ فتَضْرب يَدَ الخادِم لتقعَ الصّفحَةَ وتَنْفلق، فإذاكَ يا حبيبي تَبتَسمُ مُلاطِفًا: “غارَت أمُّكُم”، وتَنحَني تَجْمعُ بيدكَ الشَّرِيفة فِلَقَ الصَفحَةِ !!

أيُّها الصَّفِيّ المُخَتار؛ لمْ تكنْ مَلاكًا، بلْ بَشَرًا سَوِّيًا؛ كنتَ تأكلُ الطَّعامَ؛ وتَمْشي في الأسْواقِ، ولم تَكنْ أفْعالُك مَحْضَ خَيالٍ؛ ولا أوْهامٍ؛ ولا مِثاليةٍ مُتوَهَمةٍ، بل كُنتَ على الفِطْرةِ السَّليمةِ التي خُلقْنا جمِيعًا عليْها، لم تَتركْ دِيْنارًا ولا دِرْهمًا، إنَّما تَركتَ ما إنْ تَمَسَّكنا بِه؛ لن نَضِلَ بعْدكَ أبدًا.

ما أروعك حين تُوِصِينا: “إنَّكم لن تَسَعوا النَّاسَ بأمْوالِكم، فلْيَسَعهم بَسْطُ الوَجْه وحُسْنُ الخُلُق”.. و”تبَسّمُكَ في وجهِ أخيكَ صَدقة”.. و”أَحَبُ الأعْمالِ إلَى اللهِ سُرورٌ تُدْخِلهُ علَى قَلبِ مُسْلمٍ”.. فعلَّمْتَنا أنَّ الصَّدقةَ كذلك بِغَيرِ مَالٍ… وأنَّ البِرَّ شَيءٌ هَيِّنٌ، وَجْهٌ طَلِيقٌ ولِسَانٌ لَيِّنٌ.
#حورية_عبيدة
#المشهد

https://www.elmashhad.online/Post/details/169464?fbclid=IwY2xjawFSXvVleHRuA2FlbQIxMQABHdYSU83DkvnJ-PqS9uiWjt5gPorIoReg0qZfT2zuxFodJeh202i9kIDATg_aem_qw14Wq9b22v38ru_it5SFA

 

تعليق واحد

أضف تعليقا ←

  1. حورية عبيدة قال:

    شكرا جزيلا شاعرنا الكبير وأديبنا الأريب.. خالص مودتي لرقيكم.

اترك تعليقاً