أنور الخطيب، مسيرةُ يراع في ارتقاء الملء!! بقلم: الدكتور عماد يونس فغالي


أنور الخطيب، مسيرةُ يراع في ارتقاء الملء!!
بقلم: الدكتور عماد يونس فغالي

إن تجالسْه، تدخلْ فكرًا منفتحًا على منظومة ثقافات في عمقٍ معرفيّ. وإنْ تسمعْه، تكسبْ إضافاتٍ في فيضِ علمٍ قلّما توفّرَ في رجلٍ إلاّ مَن نهلَ من نبعاتٍ لا تنضب.
أنور الخطيب، علمٌ يرفرف في فضاءاتٍ، يقطف من مناهلها رحيقًا يستطيبه في مذاقاته الجوهر، يهديه لنفسه أوّلاً مرضيّاتٍ عذبةً، حرّةَ الاعتقادات في توجّهاتٍ علويّة.
وُلد الخطيبُ في لبنان فلسطينيّ الانتماء، عربيّ الهوى التعلّميّ… وُلد في لبنان، الأرض الفيها نفخت الحياةُ فيه نسماتِها الطيّبة. ما هو أنور الخطيب تكوّنًا وبضعَ نشأة، يتسجّل على خانةِ محلّ الإقامة، لا سكنًا، بل وجودًا، لبنان أوّلاً! هذا الفلسطينيّ المواطنة والانتماء والإخلاص، جاء من لبنان ليكون في هويّته الأمّ!!
تخصّص في اللغة الإنكليزيّة، متخرّجًا ليسانس تعليم في اللغات الأجنبيّة، لغة إنجليزيّة. ومارس تدريسها سنواتٍ في المرحلتين الإعداديّة والثانويّة. يقولُ في معرضٍ حميم: “بدأتُ أكتبُ شعرًا في اللغة الإنكليزيّة، بلغةٍ لم أكن تعلّمتُها في المدرسة. واصلتُ الكتابة لأكثر من ثلاثة أشهر، استيقظتُ بعدَها عاريًا من اللغة. ولا أعلم ما حدث لي… لكن الحالة تكرّرت في الجامعة، حين كانت الأستاذة الأمريكيّة تطلب مني الوقوف في مكانها وشرح قصيدة ما، وكنتُ أشرح القصيدة الإنجليزية بلغة متقنة… وحين أعود إلى مكاني كنت أخسر اللغة…”
ليصبحَ معلّمًا، درس الأسسَ التعليميّة، حسبُه يتشكّلُ مربّيًا على قيَمٍ قبل كلّ تلقين. متى تخلقْ مساحةً تربويّة، تخرجْ صانعَ إنسانٍ في رفعةٍ تصاعديّة، هنا على مساحاتٍ عربيّةِ الوطن!
عملَ محرّرًا ثقافيًّا في جريدة الاتّحاد في أبو ظبي، ومحرّرًا أوّلاً في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيّة ثمّ في كليّات التقنيّة العليا… هذا لثقةٍ في نصّه ومضامينه، إفادةً من مخزونه وأنماطه الفكريّة، وتوجيهاته الإيديولوجيّة والمسلكيّة على السواء.
في المجال الصحافيّ، كان الخطيبُ رائدًا ومبادرًا، راح في تأسيس. إلى مساهمته في تأسيس اتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات في أبو ظبي، وترؤسه اللجنة الثقافيّة فيه، ساهم في تأسيس مجلّة آفاق المستقبل في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية. كما مجلة أكاديمية في كليات التقنية العليا، في اللغتين العربيّة والإنجليزية…
كتب أنور الخطيب الرواية والشعر. في النوعين، أدرك كم الكلمة رساليّة، فتوجّه بيراعته إلى قارئٍ نخبة، في لغةٍ عاليةِ البلاغة والمرسلات… يقرأُه البسيطُ التحصيلات، فيشعرُ أنّه أمام شاعرٍ فذّ، يقدّم أدبًا جميلاً يدهشه. ويتلقّفُه الثقيف متلقّيًا شعاعاتٍ دلاليّة يلتقطُ ماوراءاتِها إعجاباتٍ نادرة… قراءةُ الخطيب، شعرًا وروايةً، دعوةٌ ملحّة إلى غوصٍ مستدام في عمق الإشراقات الداخليّة…
في فهم كتاباته، يرفض الخطيب توجيهَ مرسلته النصيّة في اتّجاهٍ واحد. متى يكتبْ للمرأةِ، لنقلْ غزلاً، يزعجْه تأويلُ نصّه إلى وطنيٍّ، قصدَ فلسطين هي المرأة. في اعتباره، وأثني، ارتباطُه بوطنه الأمّ وانشغالُه فيه انتمائيًّا وأدبيًّا، لا يمنعه من مشاعرَ عاطفيّة تجاه المرأة، والكتابة لها، شعرًا خصوصًا. هو شاعرٌ في هويّته، الموضوعاتيّة الشعريّة غيرُ محدودة ولا موجّهة في يراعته وملهَماتها.
خاضَ القلمُ الأنوريّ غمار الرواية السياسيّة، فدوّن عبر الأحداث والبناء الروائيّ، خطّه الدفاعيّ عن الأمّة، موجّهًا بأسلوبيّته الرمزيّة، الإصبع إلى مواطن الظلم وإسقاطات المصالح السلطويّة على المجتمعات النائمة، خصوصًا تلك العربيّة في امتياز. ينحاز الخطيب إلى القيم المغيّبة في العقل السياسيّ عامّةً، وفي اللاوعي الحاكم بشكلٍ خاصّ. القيمُ تلك، يَنشدُها كاتبنا أحيانًا كثيرة بين الأسطر، لتبقى المجاهراتُ وصفًا للواقع المستشري نزفَ أنسانٍ وألمَه!!
هو شاعرٌ حداثيٌّ في امتياز. لا أقولُ هذا تصنيفًا. أنور الخطيبُ يكتبُ نصّه بانسيابٍ شاعريٍّ فائق. هذا يشبه شخصَه بحقّ. الحداثةُ في الشعر قريبةٌ من الوساعةِ في فكره. الاثنتان لا تعترفان بحدود، أمعرفيّةٍ كانت أم جماليّة. وجدَ في النصّ الحديث، أعتقد من غير قصد، تعبيرًا مفتوحًا عن مكنوناته المضمونيّة الجريئة، بأسلوبيّةٍ شعريّة من داخل إيقاعاته الدافعة!
ينضمّ الخطيب إلى لائحةِ الحداثيّين الكبار. له شعرُه اللا يشبه إلاّه، متمكّنٌ من إبداعاته، ومبدعٌ في إيصالاته.
لحداثته أيضًا، تشكّلَ مادّةً دراسيّة وبحثيّة لطلاّب الجامعات في سعيهم إلى الشهادات العليا. كما كُتبت في نتاجاته القراءات النقديّة، ونشرت في المجلاّت الأبحاث العلميّة حوله.
في تبادلٍ معرفيّ معه، يبان أنور الخطيب حداثيَّ الفكر في الموضوعات الإشكاليّة خصوصًا. كلّ موروثٍ يُطْبق في انغلاق، مُبعَدٌ في مقارباته طرًّا. هذا ليكونَ شاعرُنا مفكّرًا حداثيًّا، وتكون الحداثةُ نمطًا فكريًّا قبل كونها شكلاً شعريًّا أو تطوّرًا أدبيًّا…
من ناحيةٍ خاصّة، إضاءةٌ على شخصيّة أنور الخطيب المجتمعيّة تجذبني من زاويةِ الإنسان. في الواقع، تعرّفتُ به اسمًا كبيرًا في عالم الشعر. ولمّا التقيتُه رهبتُ قربَه لما هو في وقارٍ تواصليّ، لكنْ يأتيكَ في أخلاقيّاتٍ عالية، تُشعرُكَ أنّكَ من طينته. فإنْ كنتَ كذلك، تبقَ في اتّصالٍ معه طبيعيّ. وإلاّ انسحب بالأخلاقيّات العالية نفسِها…
يوم وقعتُ على قصيدةٍ له شدّتني إلى معالجتها بقراءتي النقديّة، تردّدتُ في إرسال الأخيرة إليهِ للرهبةِ اليقابلكَ فيها كما أسلفت، خوفَ أن أكون قرأتُ خارجَ اهتمامه… لكن على العكس، لمّا تلقّى نصّي، عبّرَ عن امتنانٍ كأنّما هو حاجةٌ له. هذا ملمحٌ إنسانيٌّ في التعاطيات، على الصعيد الأدبيّ محبّذ وفي مكانٍ، نادرٌ!
في السياق عينه، اهتمامُه لما يُكتبُ فيه وعنه، لا يرفع من منسوب الأنا عنده، بل يدخلُ في إطار اقتناع بما يكتبه ويتبنّاه من قناعات. يفرحُ لِما تأخذُ كتاباتُه من اهتمامات أهل الاختصاص، من قامات الفكر والمراكز العلميّة والأكاديميّة. فكرُه إذًا في اتّجاهٍ سليم!
إنْ تقلْ شاعر، ترُحْ إلى حسٍّ رهيف، يتلقّى الجمال ويلتقطُ البذور الإبداعيّة، كما يلفظُ الدون ويتقيّأ السقطات. الشاعرُ في نفسِه الشفيف ناقدٌ في طبيعته، ما أسلفتُ تفاعلٌ مع النصّ كما مع التصرّف الإنسانيّ وردّات الفعل. الشاعرُ الناقد صفةٌ ملك في أنور الخطيب. كنّا، مجموعةَ أخلّاء، في جلسةِ قهوة، عندما أثيرَ موضوعٌ حسّاس حولَ اصطياد بعض صغار النفوس لقاصديهم في خدماتٍ شخصيّة، فراح الخطيبُ في سرد خبرةٍ له في المجال، وأضاف خاتمًا: تتكوّن لديّ بواكير روايةٍ في المادّة، عرفتُ بعد أيّام بدأ يكتبها. ما دفعه في هذه، حسُّه النقديّ ونيّتُه الأدبيّة في رساليّة عرضِ واقعٍ مجتمعيٍّ شاذّ وتحذير الفئة الشبابيّة من التعرّض له. وفي هذا يجسّدُ الروائيّ، هنا أنور الخطيب، دور المثقّف التربويّ والتوعويّ في ارتقاء المجتمعات، جماعاتٍ وأفرادًا!!
هذا السياق يؤدّي بنا إلى وعي النخبة المثقّفة لنتاج الخطيب، تنكبّ على دراسته بحوثًا ورسائلَ جامعيّة وأطاريح، ما يؤسّسُ لنضوجٍ فكريّ ورسالةٍ ثقافيّة منفتحة منذ وساعته الفكريّة، ترفع المستوى الإنسانيّ إلى قمّاته الحقيقيّة.
عندما تنظرُ إلى الكم الكتبيّ في نتاج أنور الخطيب، تدركُ أنّ الأدبَ المصفّى في خير. وأنّ رسالةَ الكلمة فاعلة في نفوسِ كاتبيها. يعزف شاعرُنا على الوتر العربيّ في مدوّناته، لانتمائه أوّلاً إلى الدوحة العربيّة هويّةً ولغةً وقضيّة. ولأجل معاناته الاعوجاجات التتآكل الجسم العربيّ في مفاصله المتعدّدة. لكنْ لا بدّ نتبيّن كم يتقن الخطيبُ اللسان العربيّ أدبًا جميلاً يعالج مرسلاته بدلالاتٍ هادفة، ويقدّم بيراعته محارًا دريًّا للمكتبة العربيّة من جهة، وللفكر الإنسانيّ من جهةٍ أساس. كلّ نصٍّ أو كتاب، في النوع الأدبيّ الذي يعتمدُه، خطٌّ إصلاحيٌّ فائقُ الوضوح، ينضحُ بقناعاته الإنسانيّة والأدبيّة من دون إكراهٍ في مكان. كأنّما النمط الإيعازيّ لا يعرف إلى مداده سبيلاً.
نهايةَ الكلام، هل يُعتبر الخطيب مدرسةً أدبيّة قائمة في حدّ ذاتها؟ هذا لا يتوقّف على تصنيفي وإن أنحاز له. في تصوّري، هو حاجةٌ أدبيّة من فئة الإنسانيّات، أوّلاً موضوعاتيًّا من حيث المعالجات اليطرحها، وثانيًا أسلوبيًّا، من حيث الجماليا اليكتبها لغةً وحداثةً انسيابَ تلقّيات.
لن أدخل ختام عجالتي في الغنى التقدّمه خبراتُه الشخصيّة علمًا ورسالةً يؤمن كم مِدادُه ملزمٌ به!
حسبي في كلّ ما أسلفتُ، أضاءةٌ على يراعةٍ خطّتْ أدبًا يعملُ في القلبِ والوجدان، ويدغدغُ الأحاسيسَ سمفونيّةً إبداعيّة تسيرُ في خطى الإنسان وتقلعُ به في فضاءاتٍ رحبةِ الارتقاء إلى مساحات الملء، كلّه!!
في ٨ آب ٢٠٢٥

اترك تعليقاً