مارون أبو شقرا
قفلةٌ دهشة لرؤية مختلفة!!

في صورته الشاعريّة، مارون أبو شقرا ناسكُ الكلمة، يقرأها في اختلاف، تخرجُ في حلاواته خارجَ الانتظار، قيلَ فيه: “مين بيفكّر بتطلع هيك؟”
الشعرُ دهشةٌ، صفةُ الصورة الشعريّة التأخذُ إلى لا عاديّةٍ غير منتظَرة. مارون أبو شقرا، شعره الصورة، تلكَ الداهشة في ازدياد. لكنّ خصوصيّة مارون في دهشة القفلة. تلكَ التُخرجُ الآه متتالية في انتهاء القصيدة الواحدة وفي القصائد كلّها.
قيلَ: الشعر هو اليجعلكَ تقف. علامةَ تجاوبٍ إعجابيّ، غيرِ متوقّع… مارون أبو شقرا تخاله هو اليقف للشعر المتساقط أمامَ فكرِه المتلقّي، يقولُه بالسحر اليصيبه فيشظّي به متابعَه!!
“بتمشي… بيهرّ الشعر عن إمّو
بتركض صبيع الحبر بتلمّو…”
كتبَ أبو شقرا رؤيتَه في المواضيع التناوَلها شعرًا. في الغالب، قصيدتُه لُمعة تتراوح بين القصيرة جدًّا والقصيرة حتى الوسط. لا تحتاجُ الفكرةُ الدهشة إلى إطالةٍ لتبرق. تخالُها لا تنتظرُ، تسبقه إلى إعلان حالها، كأنْ “بتظمط منّو” قدر وهجها…
كلّ حدثٍ يمرّ فيه أو مناسبَة تحدث في فلكه، تتشكّلُ موضوعًا لشاعريّته المختلفة.
في قصيدته على سبيل المثال “نبيد وسنديان”،
“بعدو الخشب ما غيَّر الخَصْلِه…
ناطر جْرَيكي تا يزقّو العيد،
ويْخَبّصو العِنْبات … عَ الوَصْلِه
فكَّر صبيعِك نوع تاني جديد!!!
للكَرْم قَلّو: “زيد سِكري زيد،
من هالصّنف عا طول قَصْقِصْلي،
قدّيش عمري مَزْمَز عناقيد،
ما دِقْتْ مِتْلْ حبوب هالخِصْلِه!!!”
تحتارُ من أيّهما انطلق، أمِن وصف صنع النبيذ، أم من الغزل بصانعاته، اللاتي يعصرنَ العنب بأقدامهنّ! البيتُ الأخيرُ يأخذُكَ إلى جماليا شعريّة فريدة، لكنّها تصف عبر ما قبلَها أيضًا، كم عمليّةُ صنع النبيذ عاملٌ جاذبٌ نحو الصبايا العاصرات العنب… يمتزجُ الوصفُ في هذه القصيدة بالغزل، تحدّدُ الجماليا الفنيّة الفعلَ الشعريّ فوقَ النوعين، إلى البدعة الخارقة الواقع إلى فضاءِ الفكرة المبتكَرة! الاستعارة في بداية القصيدة
“بعدو الخشب ما غيَّر الخَصْلِه…”
تنسكبُ على السياق. الخشبُ هنا قد يكونُ لا “البرميل”، بل الشاعر نفسُه أو القارئ، ذلك المتأمّل الصبيّة
“جرَيكي… يخبّصوا العنبات…”
يصفُ أو يتخيّل
“… صبيعِك نوع تاني جديد!!!” من العنب، يحلو له تذوّقٌ!
في ومضةٍ غزل، يروح شاعرنا إلى قِمّةٍ، يمزج فيها الإيمان.
“مبارح عَشيِّه، شفتك شْوَيِّه،
حسَّيت ألله باس عينيي!!!”
الإيمانُ في الحالة الشاعريّة، وجهٌ آخر لصورة الإله. رؤيةُ الحبيبة تعكسُ عِنْدَه نعمةً إلهيّة، قبلةُ الله لعينيه وقعُ نظره على محبوبته…
تنسحبُ البدعةُ الشعريّة في تعدّد صورها على المحطّات الإيمانيّة في نتاج أبو شقرا. قصيدة “هيك قالتلو” أنموذجًا. يعرض الشاعر حديثًا لمريم توجّهه ليسوع الجنين تذكر له حركتَه داخلَ أحشائها في صورة إعلان ألوهته:
“كلما بليلي تقوم تلبطني
….
وإسمع بإجرك دندنة الله”.
وتكمل تقدمةً ابنُها ذبيحًا على الصليب:
“حتى ما نوجع يومة اللي بيصلبوك”.
الألم في مواهبيّته شعرٌ في امتياز. قراءته موتَ أمٍّ فاجع، تقارن أمومتَها بأمومة الأرض التحملُ في “رحمها” أجسادَ راحلاتنا الأمّهات:
“هيك الأرض بتحبّ متل الأمّ
كتر ما إمّات صارو تراب”.
في الإطار عينه، كتب مارون أبو شقرا رثائيّةَ زياد الرحباني بحسّه “المختلف”. كتبها على لسان أمّه الملفوف بالحزن الملأ سياقَها العائليّ موتًا وموتًا… فصار التحاقُها بالأحبَة، أمنيتَها الأعذب:
“يا حزن بَعرف .. كنت ناطِرْتَك !!
بعدك متل عا طول أوفى رفيق،
تسهر تَ نام.. وإشرَبَك عَ الرّيق…
…
ويا عشق ندر وندر كبّرتَك !!!
مش بس يا أمّي أنا خْسرتَك،
كَون الحلا بعدَك شُ رَح بيضيق…
مَ الشِّعر نقطَه بْكعب محبرتَك….
…
كلّ الوجع يَمّي ما عاد يليق….
بْرَحْمِةْ لَيال ومجد عاصي، فيق
وطبّق عَ صوتي باب مقبرتَك….”
لم يغفل الشاعر في وضع أمنية فيروز انضمامها إلى عائلتها الراحلة، أن يضعَ الرحيل في خانته التحدّد هويّتَها ومكانتَها بينهم: “وطبّق عَ صوتي باب مقبرتَك….”. خذني إليهم في صوتي يا ربّ. في حالتي الميّزتني بينهم وفي الناس. صوتي الجعلني فيروز، أنا “الأمّ الحزينة وما من يعزّيها”، زيادُ أتبِعْني بكَ، أكُنِ الأمَّ والفنّانة في ملء حزني ال “بعدك متل عا طول أوفى رفيق”.
في النماذج القصائديّة أعلاه، وفي قصائده عمومًا، تبرزُ الفكرةُ الشعريّة ثنائيّاتٍ موضوعاتيّة، كالوصف والغزل، الإيمان والأمومة، الأمومة والألم… وفي هذه، يبقى للوساعة المعرفيّة دورُ النبع المغذّي قدرةَ الشاعر على إغناء النصّ بجماليا الثقافة صورةً ودهشة.
وبعد، إنْ تقرأْه أو يلقِ، لغتُه محكيّةُ الناس، هي نفسُها اليتواصل بها، في ومضةٍ تتغيّرُ إلى صورةٍ شعريّة تقلب العاديَّ مختلفًا. القصّةُ ليست في اللغة، ولا الجماليا في اللهجة البقاعيّة التميّزه. البدعةُ في الرؤية غير الشائعة، لا العامّة، “اللي بيكبّا” من خارج المتوقَّع. فكرةٌ هي في الحالة اليراها الجميع، لا تخطر إلاّ في رؤيته الضوئيّة، تُدهش… الأمثلةُ في شعره كلّه..
قد يجدُ الباحثون في مارون أبو شقرا عالمًا غنيًّا بعدُ بالخصال الشعريّة، وهذا في نظري حقٌّ وضروريّ… قد يمدحونه أو يعيبون عليه… هذا وقعُ البحث العلميّ وواقعه، لكنّهم في إنصافهم لا بدّ يهتفون: مبدع!!
في ١١ تشرين الأوّل ٢٠٢٥

