أنور الخطيب: الشعر كينونة تبحث عن وسادة الوجود (قراءة تطبيقية في ضوء رؤية د. ربى سابا حبيب)  بقلم: الدكتور جوزيف ياغي جميّل

أنور الخطيب: الشعر كينونة تبحث عن وسادة الوجود (قراءة تطبيقية في ضوء رؤية د. ربى سابا حبيب) بقلم: الدكتور جوزيف ياغي جميّل

أنور الخطيب: الشعر كينونة تبحث عن وسادة الوجود
(قراءة تطبيقية في ضوء رؤية د. ربى سابا حبيب)

في كتابها «أنور الخطيب: الشعر فعل وجود»، تضع د. ربى سابا حبيب الشعر في قلب التجربة الإنسانية، كفعل وجودٍ يعيد تعريف الكينونة.
الشعر عندها طريقة في أن تكون. ومن هنا، يصبح أنور الخطيب في قراءتها شاعر الكينونة التي تبحث عن وسادة تستقرّ عليها الروح.
فالقصيدة لديه إقامة في اللغة، كما لو كانت اللغة بيتًا يسكنه الكائن ليحتمي من تيه العالم، منفاه القسري.
في قصيدته «وسادة»، يفتتح الخطيب المشهد الوجوديّ بكلماتٍ تنضح بالوحدة والحنين:

«في هذا الليل ال يشبه قطةً عزباء حزينة
أحتاج وسادة فاقدةً للذاكرة…»
هنا تتجلّى الوسادة كرمزٍ أنطولوجيّ، مساحة بين الحلم والعدم، بين الجسد المنهك والوعي المتعب.
هي كائنٌ روحيّ يؤوي الرأس المقطوع من زمنه، يقدّم للذات مكانًا تضع فيه أثقالها من دون أن تفقد يقظتها.
إنها «بيت الوجود» بالمعنى الهايدغريّ، حيث اللغة تتحوّل إلى مأوى للروح، ويصبح النوم رمزًا للانفتاح على اللاوعي الخلّاق.
> «أحتاج وسادة فاقدةً للذاكرة…»
هذا التمنّي هو دعوة إلى نسيان الخسارات، إلى تطهير النفس من أعباء الذاكرة.
فالشاعر، كما تبيّن د. ربى سابا حبيب، يبحث عن التجاوز؛ يريد أن يولد من جديد في كل قصيدة.
الوسادة هنا تمثّل الكتابة نفسها: حقل النسيان الخلّاق الذي يُعيد ترتيب الوعي.
إنها مكان خارج الذاكرة والمكان، يتطهّر فيه الشاعر من ذاته السابقة، كما يتطهّر الصوفيّ في لحظة الفناء.
«الملقاةَ على ظهر امرأةٍ سمراء قادمةٍ من غابة جوز الهند…»
الأنثى في «وسادة» كائن كونيّ يتجاوز الرغبة ليجسّد الوجود في خصبه وتجدّده.
إنها رحم الأرض الأولى التي يحلم الشاعر بالعودة إليها، ووسيلة العبور من الجسد إلى الروح.
بهذا، تتحوّل الوسادة إلى جسدٍ أنثويّ رمزيّ، تلتقي فيه اللذة بالمعرفة. فهل يكون هذا الجسد هو الوطن الأم، فلسطين؟
فالخطيب، كما تلاحظ ربى سابا حبيب، يستبدل المعرفة باللذة ، ليجعل من الرغبة فعل كشفٍ فلسفيّ عن معنى أن تكون.
الأنثى طاقة كونية تعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والمطلق، تحرر الشاعر من منفاه، وتنحت وطنا جديداً، على صخور ميتافيزيقيا الدهشة.
> «لا أريد امرأةً تشبه أمي / كي لا أعود طفلًا وقحًا وعنيدًا.»
هنا نبلغ ذروة الصراع بين الأصل والحرية.
الأمّ هي الذاكرة الأولى والمقدّس البدئيّ، والأنثى الجديدة هي التحرّر من سطوته.
الوسادة تصبح فضاءً رمزيًا لقطع الحبل السريّ مع الماضي، لتحلّ اللغة محلّ الأمّ كرحمٍ جديد.
وهكذا يعلن الخطيب ميلاد الذات المستقلّة، الذات التي تخلق مقدّسها الخاص من حبر القصيدة.
إنه تمرّد وجوديّ ضدّ القيد الأبويّ والأنثويّ معًا، تمرّد من أجل النور، كما تصفه حبيب بأنه “وعي يتألّم في سبيل الخلاص”.

«أرخي عليها رأسي المقطوع / ليحلُمَ كالعصافير، ثم يطير.»
الصورة هنا مذهلة في عمقها الرمزيّ.
الرأس المقطوع هو الوعي الممزّق بين الحياة والموت، لكنّ الحلم يُعيد له شكله النورانيّ.
الوسادة تتحوّل إلى مسرحٍ للبعث، طائر فينيق ينهض بالكلمة ويطير الحلم من العدم.
إنها صورة الخلاص الشعريّ التي تحدّثت عنها ربى سابا حبيب:
الشعر الخطيبيّ حركة روحية تُنقذ الكائن من العبث.
على وسادة اللغة، يستعيد الإنسان طيرانه، أي قدرته على أن يحلم من جديد.
تلتقي «وسادة» أنور الخطيب مع «السرير» عند أدونيس في الرمز الحميميّ للفضاء الأنثويّ، لكنّ المسافة بينهما تكشف اختلاف الرؤية:
في قصيدة «وسادة» لأنور الخطيب، كما في «السرير» لأدونيس، تتجسّد الأنثى بوصفها مركز الوجود، طاقةً كونيةً خلاقة تعيد تشكيل العالم عبر الحلم والكتابة. غير أنّ الفضاء الرمزيّ يختلف بين الشاعرين: فالوسادة عند الخطيب مأوى الرأس والوعي، موضع يلوذ به الشاعر ليحاور ذاته، ولينقّب في طبقات الذاكرة والعدم، حيث تتداخل الرغبة بالمعرفة، والحلم بالقلق، في سعيٍ لأن يخلق وعيه من جديد. أمّا السرير عند أدونيس، فهو فضاء الخلق الكونيّ، المكان الذي يتوحّد فيه الجسد بالعالم، فيتحوّل الفعل الإيروتيكي إلى ولادة كونية، تتفجّر منها طاقة الخلق الأولى. يقول أدونيس، في ديوانه كتاب التحولات والهجرة…:
السرير
هو الفضاء الذي يتفتّح فيه الجسد
على الجسد،
والليل على النهار.
هو الأرضُ حين تستسلم للمطر،
والسماءُ حين تُنزل نجومها إلى البحر.
هو البدء،
والموت،
والبعث،
والخلق الجديد.
وهكذا يتحوّل كلٌّ من الوسادة والسرير إلى رمز أنطولوجيّ بطريقته: فالخطيب يجعل من الوسادة أفقاً للانعتاق من الذات عبر النسيان والكتابة، حيث يتطهّر الكائن من ذاكرته ليولد شعريًّا من جديد؛ بينما يجعلها أدونيس أفقاً للانفجار الكونيّ، حيث يعيد الجسد كتابة العالم في طقسٍ من الاتحاد بين الإنسان والكون. في كلا النصّين، الشعر هو الفضاء الذي يلتقي فيه الوعي بالجسد، والرغبة بالمعنى، واللغة بالوجود؛ غير أنّ الخطيب ينطلق من ألم الوعي الباحث عن خلاصه، فيما ينطلق أدونيس من فيض الرغبة التي تخلق العالم من جديد.
الوسادة عند الخطيب تُؤوي الرأس المفكّر، بينما السرير عند أدونيس يحتوي الجسد المبدع.
الأولى تُؤسّس تأملًا، والثانية تُطلق طاقة الخلق.
لكنّهما يلتقيان في رؤيةٍ عميقة واحدة: أن اللغة هي رحم الوجود، وأن الشعر هو فعل الخلق المستمرّ.
علاقة د. ربى سابا حبيب بالشاعر أنور الخطيب علاقة توأمة فكرية وروحية.
ففي قراءتها، يصبح النقد شعرًا آخر، يعيش القصيدة، يخترق مسامها إلى الأعماق، حيث يتجدّد /يتحدّد سفر تكوين جديد.
هي تنصت إلى اللغة كما تنصت إلى نبض كائن، وترى في الخطيب شاعرًا يقيم في الهاوية ليكتشف النور.
كلاهما يكتب في مواجهة الغياب:
الخطيب بالكلمة التي تخلق العالم،
وربى سابا حبيب بالقراءة التي تمنح هذا العالم وعيه ومعناه.
في ضوء رؤية د. ربى سابا حبيب، تتجلّى «وسادة» بوصفها رمزًا للكينونة الباحثة عن مأوى في اللغة.
هي وسادة الوجود التي تحتضن الشاعر في عريه، وتعيد له توازنه بين الحلم والفكر، بين الجسد والروح.
وعلى هذه الوسادة، يتحقّق الخلاص من قيود الذاكرة والمقدّس، لينبعث الإنسان طائرًا من حبرٍ وضياء.
إنها القصيدة التي تجسّد قول ربى:
«الشعر خلاص الإنسان من عبث العالم».
فاللغة عند أنور الخطيب تساوي الفعل/الشعر الذي قال به بول ريكور. إنها مكانٌ يضع فيه الإنسان رأسه المقطوع، ليحلم بالعالم من جديد، عالم يخلقه الشاعر باسم الحق والخير والجمال.
د. جوزاف ياغي الجميل

اترك تعليقاً